2024-11-28

نحن القادمون من انعكاس الحياة قصة: رزكار صبحي ترجمها عن الكردية: ماجد الحيدر

رزكار صبحي

لم يكن متأكداً حتى الآن إلا من أمرٍ واحد: إنه يفكر، يفكر من صغره، ودون أن يعرف السبب! إنه مستغرق في تفكير دائب بكل الأشياء، صغيرها وكبيرها. رأسه مثل رحى تطحن كل شيء وتدفعه الى التفكير في تحولات الحياة وتحولات جسده العجيبة، دون أن يعلم شيئاً عن الحياة وعن الجسد. كثيراً ما ترددت هذه العبارة في خاطره:
– “لا شيء بمقدوره أن يمنح الانسان الإجابة الشافية حول الوجود”
إنه جالسٌ في غرفته، كتاب بين يديه، تتدلى فوق رأسه ساعة جدارية، على يمينه رف من الكتب، وعلى يساره نافذة. كانت غرفته خليطاً من الشكوى والأحلام والوجوه السمر ورؤى الغد. يخال للمرء أنه طبع عليها بصمات الآلاف من الذكريات، وربما الآلاف من التساؤلات. إنها، وهذا المهم، ليست بالغرفة العادية. إنه ليشعر أحياناً بأنها تخفق في رأسه بكل ثقلها مثل أوراق تتقلب من جانب لآخر. ربما تكون بعض الأوراق الفارغة أو ربما أوراقاً رماها الآخرون في رأسه. في أحيان أخرى كان يبدو وكأنه يرغب في امتلاك غرفة غيرها. غرفة ليست كهذه. غرفة كلما قال لها نعم أجابته بلا، وكلما نام هو استيقظت هي، وكلما استيقظ نامت. يحدث أحياناً أن يفتح عينيه على كتاب فيشعر بالضيق ويقول:
– “إن المرء ليظن بأن رؤية الجدران تحيل عقله الى جدار!”
لكنه، في أوقات أخرى، يذهب الى القول:
– “ربما كان الإنسان نفسه مجرد غرفة، لكن روحه يمكن أن تتحول الى طائر يحلق في أرجاء العالم”
كان يشعر منذ أمد طويل باعتلاله الذهني وتنتابه حالات من الاضطراب النفسي الشديد.. يسأل نفسه:
– هل من سبيل كي يدرك المرء سر الوجود؟
ثم يجيب على سؤاله دون تردد:
– كلا، لا سبيل!
ومثل من شبع من كل شيء نظر الى الساعة وقال في نفسه:
– أشعر بأن الساعات لا تمنح الانسان، في أغلب الأوقات، شيئاً يذكر. إنها لا تنسجم وأساليبنا. إنها نقيض لكل طبائع الانسان. الساعة شيء والوقت شيء آخر، شيء لا يعرف الانسان عنه شيئا!
كان يشعر بأن الانسان لا يعرف شيئاً على وجه اليقين عن أيما شيء، لكن المشكلة تكمن في أن البعض لا يعلمون بأنهم لا يعلمون. غير أنه، من ناحية أخرى، كان يتذكر حديث أمه الذي طالما كررته:
– كفَّ يا ولدي. سوف تقتلك هذه الكتب!
وكان في كثير من الأحيان يهم بأن يجيبها “نعم يا أماه. أنتِ أيضاً على صواب” لكنه لا يدري لماذا لم تخرج هذه الإجابة من بين شفتيه ولو لمرة واحدة عن طريق الخطأ. ونظر الى الساعة. تأمل عقاربها: يعوزها القليل لتبلغ الخامسة، وتأمل عقاربها، وأحس بأنه هو الأخر يعوزه الكثير، تنقصه الكثير من الأمور، بحاجة الى الكثير من الأمور. وتمنى لو استطاع أن يمتنع طويلا عن كتابة أي شيء، عن تلويث الصفحات دونما سبب. كان يشعر بأن البعض لا يفعلون شيئا حين يكتبون، سوى تلطيخ الصفحات.
كان في أحيان أخرى، يتوق الى القفز الى الصفحة الأخيرة من الكتاب، كما لو كان يأمل في أن يمنحه كاتب ما جواباً شافياً في الصفحات الختامية. لكنه لم يعثر يوماً على بغيته، فكان يضع يده تحت ذقنه ويقول لنفسه:
– لا أعرف إن كانت حقيقة الانسان كامنة في ما يُكتَب أم في ما لا يكتب!
– هل نحن، جميعا، لا نرى غير جانب واحد من الحقيقة، ونكون لذلك عرضة للصدمات المفاجئة؟
وخرج من دائرة أفكاره، وقام عن منضدته ودسَّ ورقة بين صفحات الكتاب، وتوجه صوب النافذة بإعياء وقلبٍ مثقل بالهموم. لم يكن يحب الشتاء، كان يرى أن ملامح الشتاء تشبه ملامحه، إنها مقطبة مثله. وتطلع من الشباك الى الغيوم الماطرة:
– عذراً يا فصل الثلوج؛ من الطبيعي ألّا يحبَّ المرء ما يشبهه. لكن لا تنسَ أن الإنسان لم ينل يوماً سوى ما لا يحب!
في نافذة المنزل المقابل ثمة أم تحمل صغيرها، تحتضنه، تتحدث اليه، وتبسم له، وتمد أصابعها أحياناً خارج النافذة.
ارتسمت ابتسامة على شفتيه وتمتم قائلاً:
– كأن هذه الأم لا تعلم بأن هذا الصغير يفوقها في معرفة العالم!
وجثمت فكرة على رأسه الواجم:
– أليس عجيباً أن أي رضيع لم يكد يبلغ بضعة أيام من العمر يتعرف على أمه حين تحتضنه كما لو أنهما سبق أن عاشا معاً في زمان غير هذا!
وأمضى بعض الوقت في مراقبة تبسم تلك الأم لصغيرها..
– “تُرى هل كان لأم ذلك الصغير سبب لإنجابه؟! يوماً ما سيكبر ذلك الطفل الجميل ويشهد كل هذا التكرار، لا أعرف ماذا ستكون إجاباته لو أنه جلس فجأة ذات يوم محاصرا بالتساؤلات؟ ترى ماذا سيقول عن الحياة؟ ترى هل سيفهم أن عليه ألاّ يفهم؟”
فجأة دخلت أمه الى الغرفة لتقول:
– “آه يا ولدي.. ما أطيب رائحة هذا! ليتك لم تزل صغيراً!”
أدار رأسه على مهل ناحية صوت أمه، فوجدها مشغولة ببعض الأمور وبيدها ثوب من ثياب طفولته. نظر الى وجهها، ثمة ابتسامة رقيقة ترتسم على محياها، ودون أن يضيف شيئا الى كلام أمه راح يتساءل بينه وبين نفسه:
– “ترى هل تعرف أمي لماذا جاءت بي لهذه الدنيا؟!” ثم أجاب دون صوت:
– “يبدو أن أمي لا تعرف لماذا جاءت بي لهذه الدنيا!”
– “حسنا، ولماذا تعود أمي بين فترة وأخرى الى ثيابي القديمة؟ لقد فعلت هذا مرارا وتكراراً” ومضى في تساؤلاته مع نفسه.. “أترى تبحث هي الأخرى عن بعض الأجوبة؟ هل كنا مجرد احتياجات مؤقتة بالنسبة لهم؟ هل كان مجيئنا لهذه الدنيا لمجرد إرضاء شهواتهم؟”
لكنه لم يكن، كما يبدو، يحب أسئلته، ترك أمه في خيالاتها اللذيذة وأدار رأسه صوب النافذة وأدرك أنه تمادى في السؤال.
– “لا، لا. ثمة أمور ينبغي ألاّ يعرفها الإنسان، أو من الأفضل ألاّ يشغل نفسه بها!”
خارج النافذة كان المطر يهطل في نعومة فوق كل شيء..
– “أ يمكن أن نكون تصويراً خياليا تحركنا يد من وراء أرواحنا؟!”
عرف أنه سيوجع رأسه بهذه الأفكار! كانت إحدى زجاجتي النافذة مفتوحة والثانية مغلقة فمد اصبعه الى الضباب المتراكم على الزجاجة المغلقة وكتب “الوجود!”
بعد قليل بدأت آثار اصبعه تعود ضباباً على النافذة، فضحك من قلة الفهم وقال:
– “عبثاً. الوجود نفسه شيء من هذا القبيل!”
في ذلك الزقاق المليء بموسيقى أيام العمر، نظر بعيداً الى جمال المطر وهو يغسل كل شيء، الى البنايات البعيدة والمصابيح الصفر التي تتلألأ تحت قطرات المطر، الى البشر الذين يفرون من المطر وغيرهم ممن يتمتعون بالسير تحته، الى الأطفال الذين يتراكضون في الشارع متجهين نحو مظلات الباعة..
فجأة هبت على النافذة ريح ملأت رئتيه برائحة المطر العذبة فقال متحدثاً من أعماق قلبه:
– “وحدها رائحة المطر لا تتماشى مع هذا العالم! المطر ليس مثلي، ولهذا أحبّه!” ثم تنهد وقال “إيه يا دنيا! كانت هي الأخرى تتماشى مع المطر، لكنها رحلت.. لماذا ترحل كل الأشياء الجميلة ولا تخلّف وراءها غير موسيقى الوحشة في روحي؟! لو تأمل المرء مليّا لوجد العالم مليئاً بالموسيقى، فهل تأثر العالم بوحشة أرواحنا؟”
واستغرق في ذكريات أيام الحب وذينك الخطيبين اللذين كانا يروحان ويجيئان في مخيلته، يتخاصمان ويتصالحان، يعشقان ويكرهان.. فابتسم وضجّ رأسه من جديد:
– “حسنا، هل يعرف المطر لماذا ينزل، أم إنه هو الآخر تدفعه يد ما مثل أرواحنا.!”
وتوقف قليلاً ثم أردف:
– “هيا هيا.. ما هذه الأسئلة من جديد؟!”
على وجهه بدت علامات الإنهاك من أفكاره تلك:
– “هيا.. أنا أيضا أمضيت الوقت في العمل، هل من داعٍ لأن أشغل نفسي بهذه الأفكار؟ لقد ازدرتُ دماغي!”
وأحس برغبة في الخروج من البيت، كثيرا ما فعل ذلك أيام المطر، ارتدى ثيابه وأمسك المظلة وخرج. بعد دقائق من السير تحت المطر تغيرت سيماؤه كما لو أنه نفض غباراً جاثماً على روحه..
– “أظن أن المكان قادر على تغيير الانسان. ربما خلّف البعض عطرهم في ذلك المكان، ربما أخفى عاشق منية قلبه في ذلك المكان، ربما تركت فيه بصمات إنسان نبيل، أو ربما كان هو من يدفع بيده المطر ويدفع أرواحنا والعالم، يدفع رضيعاً لم تمض على ولاته غير بضعة أيام نحو حضن أمه ويدفع العالم الى التماهي معنا.. لا أعرف ولكن يبدو لي مهما أن المكان نفسه جزء من قدر الانسان وجزء من تلك الإجابات التي نبحث عنها، لكن من الجائز أيضاً ألا يكون المكان سوى وهمٍ او أننا، نحن، المكان!”
من نافذة سيارة مارة ثمة طفل يبتسم في دهشة لكل الأشياء التي تمر من أمام ناظريه، له، للبنايات، للآخرين، للسيارات الأخرى.. ومن بين دقات قلبه الذي غمره المطر قال:
– “لأي سبب وجدنا، لقد جئنا من انعكاس الحياة، بهذه الهيئة.. بجراح الحياة هذي.. خُلِقنا من العدم!”