مع مؤيد طيب وحديث عن الشعر ومستقبله لقاء أجراه: ماجد الحيدر
الشعر، باعتباره أقدم الفنون اللسانية، ما زال حيا وقادرا على البقاء!
أنا مع حق الناس في نشر ما يكتبون على مواقع التواصل الاجتماعي والزمان هو من يحكم على نتاجاتهم فيبقى الصالح ويذهب الهزيل أدراج الريح!
الحديث مع مؤيد طيب يشكل في حد ذاته متعة كبيرة ورحلة غنية في عوالم الأدب والفن والحياة ؛ فهذا الرجل، سواء عبر منجزه الشعري الذي بدأه شابا يافعا وواظب عليه في تصاعد نوعي الى يومنا هذا أو عبر ما قدمه للمكتبة الكردية (وبضمنها مكتبة الطفل الكوردي) من عطاء عبر مؤسسة سبيريز للثقافة والنشر، وضع بصمته المميزة كما ونوعاً على سجل الأدب الكوردي الحديث ولديه الكثير ليقوله عن واقع الشعر ومستقبله. صباح كوردستان التقت به بمناسبة صدور ديوانيه الأخيرين (ﮔه میهك لناﭪ بيابانى – سفينة في الصحراء) و (نه شه ﭪ تيرا خه ونين من دكه ت، نه روﮋ تيرا خه مين من – لا الليل يكفي أحلامي، لا النهار أحزاني) وكان لنا هذا الحديث السريع:
– بعد هذه المسيرة التي افترشت ما يزيد على أربعة عقود, ما الذي تقوله عن الشعر، عن جدواه، عن قدرته على البقاء ومجاراة الأجناس الأدبية الأخرى؟
– يقال في أحيان كثيرة بأن الرواية وغيرها من الأجناس الأدبية قد أزاحت الشعر عن مكانه، لكنني أذهب الى القول باستحالة اختفاء أي جنس أدبي. والشعر على الخصوص باعتباره أقدم الفنون اللسانية ما زال حيا وقادرا على البقاء. صحيح أنه تغير كثيرا عبر العصور، وواجه تحديات ومنافسات لا تحصى من قبل الأجناس الأدبية الأخرى بعد أن كان الفارس الأول والأوحد في ميدان الأدب، لكنني أشكك في صحة كل ما قيل ويقال من أن الشعر يتجه نحو الانقراض والفناء. أحد الفوارق الرئيسية بين الشعر والرواية هو أن القليل من الروايات نستطيع قراءتها أكثر من مرة في حين أن هناك من القصائد ما نعيد قراءتها عشر مرات وأكثر. كثير من الروايات تغدو قديمة مع مرور الوقت ولا تعود مقروءة (ما عدا الكلاسيكيات الكبرى لدوستويفكي وتولستوي وبلزاك على سبيل المثال لا الحصر) لكن العديد من أقدم النتاجات الشعرية مثل ملحمة كلكامش ومهابهاراتا الهند وشاهنامة الفردوسي واعمال شكسبير (على سبيل المثال أيضا) لم تزل حية ومقروءة. غير أنني أود الإشارة الى ظاهرة مفادها أن الشعر أكثر مقبولية وقراءة عند بعض الفئات العمرية مثل الشباب دون الخامسة والعشرين وكبار السن ممن يتجاوزون الخمسين، في حين يتحول ذوو الأعمار المتوسطة بين هاتين الفئتين الى الرواية قبل أن يعودوا الى الشعر! لاحظ أيضا أنن الشعر يتمتع، على المستوى العالمي، بحضور أكبر في المهرجانات ووسائل الاعلام. ربما يمكن القول بأن الشعر والأجناس الأدبية يسيرون جبا الى جنب لكن الشعر في رأيي يظل عصيا على الفناء، حيا وباقيا ما بقيت اللغة!
– إذا تحدثنا عن كوردستان واللغة الكردية فإننا سنلاحظ أن الشعر وقراءته ما زالا دون شك أكثر شعبية من الأنواع الأدبية الأخرى. ما أسباب ذلك برأيك؟
– ربما يعود ذلك الى ارتباط الشعر بتصاعد الحس الوطني وحركة المقاومة ضد الظلم والاضطهاد وارتباطه بمعاناة الناس وكونه وسيلة فعالة للمقاومة لذلك نظر الناس اليه نظرة احترام وتقديس وكانوا يتداولونه، رغم منعه، سماعا أو بخط اليد أو عن طريق الكاسيتات
– رغم أن من الصعب على الشاعر أن يقيم تجربته الخاصة، إلا أن من الملاحظ أن تجربتك الشعرية صارت تميل في المراحل الأخيرة نحو القصيدة/الفكرة، القصيدة الفلسفية ذات التركيز العالي والبعيدة عن القالب الغنائي. كيف تقيّم تجربتك من ناحية الشكل والمضمون؟
– لا يخفى عليك أن الكثير من الأدباء خاضوا تجربة الكتابة الشعرية في مقتبل عمرهم ثم غيروا مساراتهم نحو أجناس أدبية أخرى مثل القصة والرواية، لكن هناك أدباء يبقون شعراء منذ بداياتهم حتى آخر مراحل حياتهم، وأنا واحد من هؤلاء، إذ لم أتحول الى أجناس أخرى. لو تأملت دواويني ستجد أن هناك حداً فاصلاً بين ديوانيّ الأول والثاني وبين دواويني اللاحقة الثالث والرابع والخامس. عندما كتبت المجموعتين الأوليين كنت في العشرينات من عمري وكنت أصب جل اهتمامي على المضمون وعلى طابع المقاومة في شعري كوسيلة في خضم الكفاح. لا يملك المرء في مراحل شبابه الأولى تلك التجربة الفنية العميقة، لذلك تراه يمنح المضمون أهمية أكبر، وكان مضمون قصائدي يدور في الغالب حول معاناة الانسان الكوردي الرازح تحت السلطة الفاشية. لكنك حين تقرأ الدواوين الثلاثة الأخيرة ستلاحظ اتساع التجربة الانسانية ورحابتها، ولهذا تجد مضامين ومواضيع جديدة. لقد ابتعدت عن وطني ثلاثة عشر عاما وعشت في المنفى الذي انعكست معاناته على قصائدي. أضف الى ذلك تعمق تجربتي الحياتية والثقافية فلم أعد أكتب بالطبع بذلك الأسلوب البسيط لذلك ستقرأ في السطور وما بينها أمورا جديدة، ورؤى جديدة للشاعر كإنسان يعيش في هذا العالم ويراقب ما حوله من تبدلات في حياته وفي مجتمعه وينظر بعينه الناقدة الى كثير من المساوئ والسلبيات المحيطة. ما أقصده هو أن الشبيبة تمتاز بانفعالاتها القوية الجامحة لكن تلك الانفعالات تتحول مع تقدم السن الى تأملات. تأملات فلسفية أو صوفية أو دائرة حول معاناة الانسان.
– – ويخلي التفاؤل الطريق للتشاؤم؟
– نعم، سيحصل هذا أيضا، وسيميل الانسان الى التشاؤم. عندما يكون المرء في شرخ شبابه يكون العالم كله أحلاما فسيحة وآمالا بتحقيقها، لكنه سيدرك مع الوقت كمية السذاجة التي كانت تنطوي عليها تلك الاحلام والايمان بإمكانية تحقيقها. إنه أمر شبيه باعتقاد شعب مقموع رازح تحت دكتاتورية بغيضة بأن الدنيا ستتحول الى فردوس حالما تنتصر الثورة ويرحل الدكتاتور، لكنه يصاب بخيبة الأمل! ملاحظتك عن التفاؤل والتشاؤم كثيرا ما طرحت في جلساتي الشعرية ولقاءاتي مع الجمهور الذي يسألني: كنت قبلا أكثر تفاؤلا فما سر ميلك الى التشاؤم؟ وكنت أجيب بأن هناك نوعين من التشاؤم: نوع يتبنى موقف التسليم للواقع السيء ونوع ثان يعمل على كشف الواقع وسلبياته من أجل تغييره، أي هو موقف تحريضي.
– وماذا عن ناحية الشكل أو الأسلوب؟
– رغم أن الدواوين الأخيرة لا تخلو من قصائد طوال لكنني صرت أكثر ميلا الى التكثيف، الى القصر سواء في الأبيات أو في القصائد، والى التحرر من الشكل التقليدي والوزن والقافية، والى إيلاء مزيد من الاهتمام للصورة الشعرية، للشكل القريب من اللوحة الفنية وللقصائد التي تتخذ شكل الإبيكرام والهايكو (أو التي تحمل بعض صفات الهايكو، رغم أنني لم أطلق عليها هذه التسمية) وأعتقد بأن هذا التوجه نحو قصر الأعمال اتجاه عالمي حتى في الرواية.
– ثمة سؤال يطرح نفسه بقوة بين الفترة والأخرى: وأنت تلاحظ هذا الكم الهائل من النصوص “الشعرية” التي تظهر كل يوم عبر صفحات الانترنت وخصوصا صفحات التواصل الاجتماعي بسهولة (واستسهال) ودون رقابة نوعية إن صح التعبير؛ هل أنت مع القائلين بأن هذا الوضع سيترك أثرا مدمرا دائمة على الشعر والعملية الابداعية عموما؟
– يقول سارتر ما معناه أن كل انسان لديه ما يريد سرده وأن يوما ما سيأتي يصبح كل انسان فيه كاتبا. وهذا لا يعني بالطبع أن يتحول الجميع الى أدباء وكتاب كبار، لكن أن يحظى الجميع بحقهم في الكتابة دون أن يقتصر ذلك على النخبة، فلكل إنسان قصته ورؤيته واحتياجاته التي يمكن أن يعبر عنها بالكتابة. أشبّه هذا بالرياضة التي كانت ممارستها مقتصرة على نخبة من الناس هم الرياضيون المتدربون، بينما نرى الآن أن اعدادا هائلة تمارس الرياضة دون أن يعني ذلك تحولهم جميعا الى رياضيين محترفين. في السابق لم يكن من السهولة على الكاتب أن يحظى بفرصة النشر في مجلة أدبية ما لم يصل الى مستوى معين من الشهرة أو الاعتراف بموهبته، ولم يكن أمامك من طريق آخر لنشر نتاجاتك غير أن تقرأها على مجاميع من أصدقائك. اليوم أجد أن مقولة سارتر قد تحققت على أرض الواقع وصار بمقدور أي انسان أن ينشر نتاجه على السوشيال ميديا والفيسبوك ثم يحكم الزمان على مستوى ما ينشره فيبقى الجيد ويُنسى الرديء. في مدينة مثل دهوك ربما تجد خمسين ألف شاب يمارسون كرة القدم لكن عشرينا شخصا من بين كل هؤلاء يتحولون الى محترفين ويشاركون في البطولات. من هذا أقول بأن ايجابيات الفيسبوك في الأدب أكبر من سلبياته (التي تتمثل في سوء استخدامه لأغراض التشهير والتسقيط وتوجيه الاهانات وهذا لا علاقة له بموضوعنا). في السابق كانت بلدان بأكملها لا تصدر سوى مجلة أو اثنتين وكان النشر فيها صعبا جدا إلا لأسماء محددة. في شبابنا مثلا (وحتى عام 1982 أي سنة خروجي من العراق) كانت أمامنا جريدة اسبوعية كوردية واحدة هي (هاوكاري) وفيها صفحتان أدبيتان فقط لكل أدباء كوردستان ولم يكن الجمهور يعرف تقريبا غير الذين ينشرون فيها! لهذا أقول بأن كثرة ما ينشر في الانترنت أمر إيجابي في مجمله والجمهور لم يعد ساذجا أو سهل الخداع وهو يتمتع بوعي أكبر عند تعامله مع النصوص الأدبية بمختلف أجناسها والصالح منها هو ما سيبقى في الأمد البعيد أما الهزيل والمفتقر الى النضج الفني فسرعان ما ينسى ويذهب أدراج الريح! السوشيال ميديا أشبه بسوق تعرض فيه الأعمال الأدبية وعلى دور النشر أن تتابع ما يظهر فيها من أسماء وتنتقي المتميز منها وتمنحها الفرصة لطبع أعمالها.
– أخيرا ما هو رأيك بمستقبل المنشور الورقي في ظل المنافسة الحادة من قبل المنشور الرقمي؟
– لقد شهدت السنوات القليلة الماضية عزوف الكثير من الصحف العالمية عن النشر الورقي وتحولها الى النشر الالكتروني. الثورة الرقمية أحدثت أيضا ثورة في سهولة التلقي. كان تعلم المبادئ الأساسية لمهارات القراءة والكتابة يستغرق في الماضي سنوات طوال من التعليم المدرسي الشاق حتى يصل الانسان الى مستوى يؤهله لقراءة كتاب خارجي. اليوم صار بإمكان طفل صغير أن يستوعب ما يراه على صفحات الإنترنت بل وأن يتعلم لغات عديدة في سن مبكرة جداً. هذا أحد الأسباب التي تجعل من الكتاب (والمنشور) الرقمي تهديدا حقيقيا للمنشور الورقي الذي يسير نحو الاضمحلال. المطبوع الرقمي أسهل في التعامل، أكثر رخصا، أيسر في الوصول، وتجد أعداد متزايدة من القراء متعتهم وراحتهم من خلاله، لكن الناس يختلفون طبعا في مدى اقبالهم على قراءته؛ في السابق كانت ثقافة المرء تعتمد على مصدرين هما العين والأذن أعني المطبوع الورقي والراديو (طبعا قبل انتشار التلفزيون) ولهذا نجد أن الاحساس القديم بمتعة الكتاب الورقي وطقوسه ما زال طاغيا عند الكثير منا.