محمد عبد الله قصتان قصيرتان جدا ترجمة: ماجد الحيدر
(1)
مكالمة هاتفية
دخل الغرفة دون أن يلقي التحية واتخذ ركناً قَصيا ثم أشعل سيجارة. كانت أساريره متغضنة وكأن عقرباً قد لدغه بين عينيه. أما وجهه فقد احمرّ من الغضب. يتطاير الشرر من عينيه ولا يقر له قرار، فيجلس مرة ثم يقوم مرة أخرى ليذرع الغرفة ذهاباً وإياباً، ثم يغادرها ويضع هاتفه على أذنه دون أن يتلقى ردا، فيعود الى الغرفة من جديد.
عيناه تشيان بأنه في مشكلةٍ كبيرة. لكن أحداً لم يكن ليجرؤ على سؤاله بسبب لسانه السليط، فهو، في لحظات غضبه، يحرق الأخضر واليابس ويتجاوز كل محظور؛ ولهذا يتحاشاه زملاؤه ، رغم أنهم ظلوا يبدون له الاحترام، فقد كان واحداً من مثقفي المدينة ومفكريها المعدودين.
أطبق الصمت على الغرفة ولم تسمع فيها همسة واحدة. كان الجميع يتبادلون النظرات بأطراف أعينهم. وأخيراً لم يطق (آزاد) صبرا واستجمع شجاعته وقال:
-“خيراً يا أستاذ (هوشنك) ما لي أراك غاضباً بهذا الشكل؟ هل بمقدورنا أن نقدم لك أية مساعدة؟”
استدار (هوشنك) وقد اتقدت عيناه وأجاب:
-“أي خير هذا؟ وهل تأملُ خيراً من هذا المجتمع الجاهل المريض ؟! ونريد أن نصبح دولة ونلحق بالمجتمع الأوربي! أوهوو، أوهوو.. لو بقينا على هذا المنوال علينا أن نقطع كل رجاء!”
ثم عاد، بعد أن نفّس قليلا عن غضبه وبلّ فؤاده بكلماته الحانقة، واستدار ليقول:
-” كنت أتنزّه مع صديقتي في أطراف المدينة، وفجأة تلقت مكالمة هاتفية تهددها بالقتل. هذا هو المجتمع الأوربي الذي يريدون اللحاق به!!”
وازدادت حُميّاه مثل خطباء المساجد. وطفق يتحدث عن الحرية الشخصية وحرية المرأة. وفجأة رن هاتفه، فشحب وجهه، وانهمر الخوف من جبينه وقد توقع أنها مكالمة من بيت صديقته وأن أهلها يبحثون عنه.
سارع لإخراج الهاتف من جيبه، لكنه حين رأى رقم المتصل هدأ قليلا وتنفس الصعداء. غير أنه سرعان ما ضرب الأرض بقدمه وانتصب غاضبا وهو يصرخ:
-“لم يبقَ إلا هذا!؟ لم يبق إلا أن تقع هذه البلوى على رأسي؟! أن تجعلني (هوزان) مُضغةً في أفواه الناس؟ أهكذا ربيتها؟ تخرج بحجة الذهاب الى الجامعة ليراها أصدقائي وهي تتجول في البراري مع أحد أبناء الشوارع؟ حسناً إذن. أقسم بأنها لن ترى الجامعة بعينيها بعد اليوم….”
(2)
الصياد
علق بندقيته على كتفه ودسَّ قدمه في حذائه ونظر بزاوية عينيه الى زوجته وقال:
– “الى أن تسخّني الشاي وتعدي خبزاً طازجاً للإفطار سأخرج الى هذا السفح الظليل المطل على القرية لعلني أحظى بصيد حسن آتيكِ به”
ومضى يجتاز وهدة بعد أخرى قبل أن يبلغ طرف الوادي. فجأةً أبصر نمراً عظيماً مرقطاً نائماً بين فرعي شجرة كبيرة. قال (أحمو) مع نفسه:
– “آه.. نمر! أنمر هنا؟ أهنا نمر؟! لا أصدق أن ثمة نمور في جبالنا! إممم، قبل سنوات عندما قال (حسو) المسكين إنه سمع صوت نمر في السفح الظليل وراء القرية سخر منه أهل القرية ولقبوه بالكذاب وقال الجميع إنه جبان رعديد يخال أصوات الثعالب والأرانب أصوات أسودٍ ونمور.. يبدو أن حسو المسكين كان صادقاً. سأبيّن لأهل القرية جميعاً صدق قولك وأنه كان حقاً صوت نمرٍ. سأجعل من فطيسته فزّاعة أمام أعين أهل القرية وسأنصبه في حقل الرز كي لا تقربه الخنازير والضواري.. همم.. إذن فهذا الكبير الرأس هو من يأكل دجاجنا وماعزنا.. عهداً عليَّ لأخرجنَّ لحومهم من أنفك!”
ألقم بندقيته خرطوشةَ خنازير وشرع يزحف على بطنه رويداً رويداً صوب النمر حتى صار في مدى سلاحه. تمترس خلف صخرة وصوب الرصاصة نحو جبهته. ارتفع الدويّ وخرَّ النمر هاوياً الى الجانب الثاني من الشجرة. أسرع الى رفع بندقيته وتقدم نحو الشجرة في حذر متذكراً قول أبيه:
– “إذا ما جرحتَ وحشاً فاحذر الاقتراب منه لئلا افترسك وخاصة وحوش كالنمر”
وأخذ يحدّث نفسه:
– “خيرٌ لي أن أعود الى القرية وأحذر أهلها.. لا، لا أنا من أقدم على هذا العمل الرجولي ويجب أن يبقى مقترناً باسمي. غداً سيعرف كل أهالي المنطقة بأن (محو) قد اصطاد نمراً.. يكفيني هذا. ستكون هذه مفخرةً عظيمةً لعشيرتي كلها. ولكن ماذا لو ذهبت اليه وتبين أنه جريح وهجم عليَّ؟ سيقول الناس: هل جنَّ الرجل؟ كيف يقترب من نمرٍ جريح؟ لكن من المؤكد بأنني، إذا ما ذهبت اليه وجررت جثته الى القرية، سأكون في نظرهم (خانى لَب زيرين) ـاً ثانياً *.”
تقدم صوب النمر ودنا نحو جذع الشجرة في حذر تسبقه ماسورة البندقية. رفع رأسه على مهلٍ ونظر الى فرعي الشجرة. وجّه الفوهة نحو المكان الذي سقط فيه النمر. كان قلبه يخفق بسرعة هائلة والبندقية تهتز مثل قصبةٍ في الماء، وفي رأسه يتردد ألف لحن:
– “حسناً. وما الذي يرغمني على السعي وراء المصائب؟ من سيربّي أطفالي؟ لكن لا تنس يا أحمو أن هذا سيكون لك ذكراً أبدياً. أما أنت أو أنا يا ذا الرأس الكبير. ها قد جئتك ولن أرتد على أعقابي حتى لو قال أهل القرية أنه تصدى لنمر فافترسه”
وسط القش والحشيش رأى شبح النمر فعاجله بإطلاقة أخرى جعلته يتقلب مرتين وثلاث.. اقترب رويداً رويداً.. وضع يديه على خاصرته وقال في أسىً:
– “آه. يا للأسف. لقد مزقتُ بطانية راعي القرية !”
• خاني لب زيرين (الخان ذو الكف الذهبية) أحد أبطال التاريخ والتراث الشعبي الكردي. ارتبط اسمه بملحمة قلعة دمدم الشهيرة التي واجه فيها الشاه عباس الصفوي.