2024-11-28

لمحات من تاريخ الأدب الكردي-الحلقة الأولى

جويس بلو

يعد الكرد أكبر شعب في العالم دون دولة خاصة بهم، إذ تتراوح أعدادهم بين 25 و 40 مليون كردي، يعيش معظمهم في منطقة على شكل هلال يقع في الجزء الشمالي من منطقة الشرق الأوسط (كوردستان الكبرى) . كما توجد تجمعات من الكرد خارج الاقليم الجغرافي المعروف بكوردستان؛ ففي الدول التي انبثقت عن الاتحاد السوفياتي سابقا يعيش مليون كردي، و يعيش 800 ألف في شمال شرق إيران في إقليم خراسان بعيدا عن كوردستان الشرقية (الايرانية)، كما يعيش 100 ألف كردي في لبنان، وكذلك تعيش أعداد كبيرة من الكرد في المدن الرئيسة في الشرق الأوسط، يضاف إلى ذلك كله أنه، في العقود الثلاثة الأخيرة، تشكلت جالية كردية مؤلفة من حوالي 850 ألفاً في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية وحتى أستراليا. من الناحية السياسيةَ، لم تكن هذه الأرض الشاسعة التي يعيش فيها الشعب الكردي موحدة قط. ففي الحرب العالمية الأولى كانت مقسمة بين الإمبراطوريتين العثمانية والفارسية. كما أن دول الحلفاء، بالرغم من وعودهم بإنشاء دولة كردستان المستقلة بعد الحرب، قسّموا الأراضي الكردية بين تركيا وإيران والعراق وسوريا، ومن ثم وجد الكرد أنفسهم مقسمين، مواطنين لدول تسيطر عليها مجموعات عرقية (الترك والفرس والعرب)، لها في الغالب مواقف عدائية تجاه تطلعات الكرد لنيل دولتهم القومية.
اللغة الكردية
تنتمي اللغة الكردية إلى مجموعة اللغات الهندو-أوربية، وتشكل اللهجات الكردية، المنتشرة على مساحات واسعة، مجموعة متجانسة مميزة من اللغات الإيرانية الأخرى؛ مثل الفارسية والبلوشية والباشتو ولهجات بحر قزوين، ولم تكن هذه اللهجات موحدة، ودرجة الاختلاف بينها تتناسب مع البعد الجغرافي الذي يفرقها على امتداد أراض جبلية شاسعة لم تكن موحدة سياسيا. فلهجات المجموعة الجنوبية، وتسمى بشكل عام الكرمانجية (باديناني في العراق)، محكية من قبل أكبر مجموعة من الكرد، وتتضمن كرد تركيا وسوريا والاتحاد السوفياتي السابق وبعض أكراد العراق وإيران. المجموعة الوسطى من اللهجات في شمال شرق العراق تسمى السورانية، بالإضافة إلى لهجات كردستان إيران المجاورة مثل موكري وكردي وسنه، أما المجموعة الجنوبية فتتضمن اللهجات المتنوعة في الأقاليم الإيرانية في عيلام وكرمانشاه ولورستان ووسط العراق بدء من خانقين مرورا بمحافظات ديالى وواسط وميسان حيث يتحدثون بما يعرف باللهجات الفيلية أو الكلهورية أو اللرية .
على الرغم من أن الأمية كانت منتشرة في كردستان حتى خمسينيات القرن العشرين، فقد كان هناك دائما نخبة من المفكرين، إذ لاحظ هذا الشيء كلٌّ من الأمير شرف خان البدليسي (-1561- 1604) في كتابه “شرف نامه”، وكذلك الرحالة أوليا چلبي. فقد كتبت هذه النخبة المثقفة باللغة الفارسية والعربية (اللغات المسيطرة في المنطقة آنذاك). ففي القرن الثالث عشر كتب ابن الأثير (ت:1233)[1]، المؤرخ وكاتب السيرة ذو الأصول الكردية، كتابه “الكامل” باللغة العربية، و كذلك كتب ابن خلكان ت(.1282) وأبو الفداء (ت.1331) باللغة العربية، وكتبت الشخصية العثمانية إدريس حاكم بدليس (ت.1520) كتاب”الجِنان الثماني”باللغة الفارسية، وهو كتاب يسرد حياة السلاطين العثمانيين الثماني الأوائل، وكذلك كتب شرف خان البدليسي كتابه “شرف نامه” بالفارسية.
لا تزال هذه الظاهرة مستمرة إلى وقتنا الحاضر؛ فعلى سبيل المثال أحمد شوقي (1932-1868) اكتسب لقب “أمير الشعراء”؛ لأنه كان رمزا للشعراء العرب في عصره، كذلك بلند الحيدري (1926-1996)،بالإضافة إلى ثلاثة شعراء موهوبين، أوجدوا مدرسة عراقية للأدب كان لها تأثير حاسم في كامل الحركة الأدبية العربية. يثير سليم بركات (المولود عام1951) الذي يُعدُّ من قبل أقرانه أحد أبرع مبدعي النثر العربي، يثير في أعماله طفولتَه والحياة اليومية للمجتمع الكردي (وهو يكتب باللغة العربية). وكذلك يكتب يشار كمال (المولود عام1922) أشهر كاتب تركي من بين كتّاب جيله باللغة التركية؛ فأعماله التي تُرجِمت إلى أكثر من عشرين لغة تحيي تقليد الأسطورة، وتُعرَفُ أعماله من حيث إنها تولي اهتماما بالفلكلور الكردي، ومن جانب آخر اشتُهر علي محمد الأفغاني (م.1925) من خلال كتابه “زوج السيدة آهو” المكتوب بالفارسية، وأعيدت طباعته أكثر من عشر مرات منذ الطبعة الأولى عام 1961.
بدايات الأدب الكردي غير واضحة؛ إذ إننا نفتقد ليس فقط إلى معرفة شيء عن الثقافة الكردية قبل الإسلام فحسب، وإنما لا توجد أيضاً طريقة لمعرفة عدد المجلدات التي دُمِّرَت في أثناء فوضى الصراع اللامتناهي الذي حدث، ولا يزال يحدث، على الأراضي الكردية. أولى النصوص الكردية التي وصلت إلينا مكتوبة بالألفبائية العربية-الفارسية، ولمدة طويلة كان هذا الأدب يُقرأ من قبل سكان المدن، أما أدب الأكثرية من الكرد-الفلاحين والبدو المستقرين والرحل- كان يُنقَل شفاهاَ، وحتى المعلومات القليلة التي نملكها عن حياة الشعراء تبدو متناقضة.
المحاولات المبكرة لتأريخ الأدب الكردي
أول العلماء الغربيين الذين كتبوا عن الأدب الكردي هو القنصل الروسي في أرض روم، ألكساندر أوجوست جابا (Alexandre-Augute Jaba)، الذي أحبّ الكرد وثقافتهم؛ فقد كان محظوظا إذ التقى بالشخصية الكردية المثقفة الملا محمد بايزيدي، الذي قدم له مساعدة قيمة. ففي كتابهRecueil de notices et récits Kourdes servant `a la connaissance de la langue، de la literature et des tribus du Kourdistan كرّس جابا مقدمة للحديث عن “شعراء وكتاب كردستان الذين كتبوا باللغة الكردية”، وكذلك كتب سِيَرا مختصرة للشعراء التالية اسمائهم: علي حرير(Ali Hariri)،وملاي جزيري (Malâyê Jezri)، وفقي طيرا(Faqiyê Teyrân)،وملاي باتي (Malâyê Bâte)،وأحمدي خاني (Ahmedê Xâni)،وإسماعيل بايزيدي (Esmâ’il Bâyazidi)،وشريف خان (Sharif Xân)، ومراد خان (Morâd Xân).
طُبِعَت النسخة الأولى من “مجلس المثقفين الكرد” (Anjumani Adibâni Kord) عام 1920، فقد كان مؤلفه أميرالاي أمين فَيْزي بك (1923-1860) مفكرا وضابطا بارعاً، وشاعراً يكتب بالكردية والتركية والفارسية. بعد ذلك بعشرين عاماً نشر كمال بابير (علي بابير آغا 1975-1887) كتابه “باقة من شعراء زماني” (Guldestey Shu’eray haw’esrim) (السليمانية 1939)، إلا أن أكثر أهمية من ذلك كانت دراسة المؤرخ رفيق حلمي(1898-1960-) المعنونة بــ “الشعر والأدب الكردي”، و كذلك نشر علاء الدين سجّادي (Alâ-al-Din Sajjadâiأو Seccadî) (-1910- 1985) كتابه Mêzhuy Adabi Kordi في بغداد سنة 1956؛ ففي هذا الكتاب يَذكُر المؤلف 296 شاعراً، قضوا نحبهم، وهم من كردستان العراق وإيران كتبوا باللهجة السورانية، غير أنه لا يذكر كتّاب النثر أو المؤلفين الآخرين من مناطق كردستان الأخرى، سواء كانوا متوفين أم مَنْ هم على قيد الحياة، فهذا يعطينا فكرة عن مدى غنى الأدب الكردي، على الرغم من أننا لا نستطيع إلا أن نقدم وصفا مختصرا (انظرKurdo 1983; Uzun 1995)
بواكير الأدب الكردي:
ظهرت الأعمال الأدبية الكردية المميزة في وقت كانت فيه الإمبراطوريتان العثمانية والصفوية الفارسية في طور التشكل، بينما أخفقت العائلات الكردية الحاكمة في تأسيس دولتهم، فأصبحت كردستان محل جشع جيرانها الأقوياء، الذين تقاتلوا للسيطرة عليها، مخلِّفين الدمار جراء هذا الصراع.
بالرغم من ذلك، تمكن ملاحظة أنه حتى الأعمال الأولى لهذا النتاج الشعري الذي وصل إلينا تظهر إتقانا في استخدام التقنيات الأدبية، ما يوحي أن هذا الشعر لم يكن جديدا، بل كان مستندا إلى تقليد قديم، لا تزال أعماله الأولى غير معروفة لنا. أدى تأسيس عائلات حاكمة كردية إلى استقرار سياسي سمح بدوره بتأسيس المدن حيث ازدهرت الثقافة والأدب، وتبنى هؤلاء الأمراء إيجاد تأسيس المدارس والكليات والإشراف على عملها وتوفير الدراسة لمن يحتاجها، فكانت الكتاتيب (مدارس القرآن) الملحقة بالجوامع مؤسسات التعليم الأساسية في كردستان حتى الحرب العالمية الثانية. فقد تمكن الأمراء الكرد من خلال هذه المدارس من تعزيز وتطوير تقليد أدبي كردي مكتوب مستندين إلى أعراف وتقاليد مشتركة، وعلى هذا تمكن كل جيل من الشعراء الكرد التعلم ممن سبقوهم،فأصبحت اللغة الكردية لغة أدبية عن طريق الشعر، بينما ظهرت النصوص النثرية لاحقا. استمدَّ الشعراء أشكالاً أساسية من الشعر العربي-الفارسي مكتسبين خزانا من الأجناس الأدبية والتقنيات الأسلوبية. وفي تتبع أصول الشعر الكردي،زعم بعض الباحثين أن أول شاعر كردي هو بابا طاهر،وهو يسمى أحيانا الهمذاني أو اللوري (انظر Sejjâdi 1956، ص. 170)، يستند أساس هذا الجدال إلى أصول هذا الشاعر الصوفي الذي ولد في همذان، التي يُظن أنها كانت ضمن الأراضي الكردية، بينما يعتقد باحثون متخصصون آخرون من أمثال جابا وقناتي كردو(Qanatê Kurdo)(1909 -1985–) أن علي ترموكي (Ali Tarmuki أو Termâxi) أو علي حريري هو أول شاعر كردي (انظر Kurdo 1985، ص. 14-57). غير أن أشهر الشعراء في الفترة الكلاسيكية هو الشيخ أحمد نيشاني (-1570-1640) الذي يعرف باسم ملاي جزيري؛ فقد كان مثل الكثير من المثقفين الكرد يتقن العربية والفارسية والتركية. يتضمن “ديوانه”Divân أكثر من ألفي بيت شعر،فلا تزال “قصائده” و”غزلياته” معروفة بين الناس، وتدرس في المدارس (مدارس القرآن) في كردستان. (انظر Hartmann 1904؛Amêdî 1977؛ Sharafqandi 1982). ألف ملاي جزيري سوناتة كما فعل مولوي في القرن التاسع عشر، وكما يفعل الشعراء الكرد في وقتنا الحاضر، ويهيمن الغزل على مشهد ديوانه على نحو ملحوظ، ولعل ذلك راجع إلى تأثره بالشعراء الفرس وخاصة حافظالشيرازي، ففي سياق الشعر الصوفي يحتفي الشاعر بنشوة الخمر ولذة وعذاب الحب الصوفي في شكله المثالي. عُدَّ ملاي جزيري،مثله مثل الكثير من الشعراء الصوفيين، قديسا في أثناء حياته، وكثرت الأساطير ونُسجت الحكايات الشعبية حول حياته، اختار ملاي جزيري أن يكتب بلهجة عائلة عزيزان، أمراء إمارة بوتان، الذين يؤسس التراث علاقة بينهم وبين أبطال عديدين في بدايات الإسلام هناك عام 1514. كما أنه استلهم مضمون شعره من تقاليد الشعر الفارسي.
صاغ الشعراء الكرد والفرس شعرهم على أشكال الشعر العربي، رغم بعض الاختلافات التي لا يمكن تجنبها؛ فقد اتخذوا قوافي وأوزاناً مبنية على علم عروض الشعر العربي،بالرغم من الاختلافات المهمة بين اللغة العربية واللغات الإيرانية في هذا السياق.
جاب ملاي جزيري كافة أنحاء كردستان، وكان له العديد من الأتباع (الطلاب)،وبهذه الطريقة أصبحت معاييره الأدبية وكذلك لغة أمراء بوتان عناصر أساسية في الأدب الكردي الكلاسيكي. فمن طلاب ملاي جزيري الذين يستحقون الذكر محمد مكس (Mohammad Mikis) الذي يعرف باسم فقي طيران ( Feqiyê Teyran) (-1590- 1660) الذي ألف “قصائد” و”غزليات”، ومن الممكن أنه كان أول شاعر كردي يكتب رواية شعرية مستخدما “المثنويات” ذات الأسلوب الشعري الوسيع.فقد ترك عدة أعمال موقعة بأحرف ه. م.: “قصة شيخ صنعان”، و”قصيدة الحصان الأسود”،و”قصة برسياي”، بالإضافة إلى مرثية عن موت معلمه ملاي جزيري.
كان أحمدي خاني (-1650- 1707) شاعرا صوفيا وفيلسوفا، فهم الناس ورأى نفسه واحدا منهم، فأعظم أعماله “مم وزين” (Mem û Zîn)، وهي مثنوية غنية بالصور الشعرية والمشاهد الغنائية، مبنية على القصة الشعبية الرومانسية “ممى آلان” (Memê Alân) التي تسرد قصة حب عذري بين الأمير مم والأميرة زين(Lescot 1999).
استعار أحمدي خاني الصور من الشعر الفارسي، قد يكون أُلهِم من قبل “ليلىِ ومجنون” لنظامي كنجوي، الذي ألّف قصيدته بأسلوب المثنوية وببحر الهزج. فهذا البحر الشعبي الشعري المدمج و الخفيف والموسيقي والسريع يناسب العبقرية الطبيعية للغة الكردية. فهذه القصة الرومانسية الحزينة مليئة بالرمزية القومية. يقدم الشاعر هذه القصيدة الرومانسية كردة فعل ضد الشعور القومي المتنامي للإمبراطوريتين العثمانية والصفوية، مبرزاً التميز الكردي وحقوقهم في الاستقلال والحرية. صاغ أحمدي خاني المشكلات الأربع للأدب الكردي: مهنة الكاتب؛ دور الشعر؛ العلاقة بين اللغة والأدب والمجتمع؛ وأخيراً وضع اللغة الكردية ذاتها.
م. ح
المصدر: جويس بلو، الأدب الكردي المكتوب، ترجمة عبد الكريم عته، موقع مدارات كرد