2024-11-28

لأهمية وخطورة الموضوع/ تعيد الأهالي ريبورت نشر التحقيق المنجز من قبل شبكة نيريج للصحافة الاستقصائية.

3

النفايات الطبية في العراق خطر آخر يهدد الحياة … تحرق وتصرف خارج الضوابط البيئية

نور العزاوي – صحافي عراقي
مايو 2020
تتعالى كل يوم لساعات أدخنة محرقتي مستشفى الديوانية التعليمي ومختبر الدم الحكومي، اللذين تنبعث منهما غازات سامة بروائحها الكريهة، مشكّلة مصدراً للتلوث وسط الأحياء المكتظة بالسكان.
كانت الساعة في مستشفى الديوانية التعليمي تشير إلى الثامنة صباحاً، حين وقف جواد كاظم البديري (75 سنة) أمام كومة من الأكياس السود وصناديق النفايات الموضوعة أمام حاويات بلاستيكية، وبدأ فرزها واضعاً “النفايات الطبية” بعيداً من غيرها تمهيداً لإحراقها.
“ابو علاء” كما يحب أن يُنادى، يمضي كل يوم بمفرده أو بمساعدة ابنه العشريني، ساعات طويلة في فرز مئات الكيلوغرامات من النفايات وإحراقها في المحرقة التي تجاوزت منذ سنوات عمرها التشغيلي ودخلت مرحلة الاندثار، من دون إيجاد بديل. فهي الوحيدة التي تكابد لتخليص المستشفى من “نفاياته الخطرة” التي تمثل تهديداً بيئياً، في وقت يظل مصير 20 محرقة جديدة مجهزة منذ سنوات مجهولاً، بسبب خلاف حول مواصفاتها.
يقول وهو يحاول منع نفسه من السعال، قبل أن يرفع عن فمه كمامته الطبية التي اتسخت بفعل يديه اللتين كان يرفع بهما النفايات من دون قفازين: “15 عاماً وأنا أعمل هنا أجيراً يومياً لدى شركة التنظيف. كل يوم وطوال ساعات النهار وبلا توقف أفرز النفايات التي تصلنا مختلطة، ثم أحرقها”.
تتنوع النفايات التي يعمل البديري على فرزها، بين مواد طبية خطرة، وأخرى بلاستيكية يجب ألا ترمى في المطامر بلا معالجة، وبقايا طعام وحتى ملابس.
يتابع وهو يبتسم بينما يُعاين محتويات كيس تفوح منه رائحة كريهة: “تعودت على رائحتها ودخان سمومها… مضى عمر ونحن معاً، لا أتذكر أنني أخذت يوماً إجازة، فغيابي لأي سبب سيعني تراكم هذه النفايات الطبية وتناثرها أو تصريفها مع بقية النفايات بكل ما يحمله ذلك من مخاطر”.
نفايات طبية على الأرصفة
ليس بعيداً من مستشفى الديوانية الذي بني في ثمانينات القرن الماضي وتتم معالجة النفايات الطبية فيه من خلال محرقته المتهالكة التي تعود إلى تاريخ بناء المستشفى، تتراكم في “شارع الأطباء” في قلب مدينة الديوانية التي يسكنها مليون وربع المليون انسان، النفايات الطبية على أرصفة البنايات وفي زوايا الشوارع، لتشكل تهديداً مباشراً على الصحة العامة.
يضم الشارع الذي يستقبل آلاف المتسوقين والمرضى الباحثين عن علاج، عشرات المراكز والعيادات الطبية الخاصة، التي تتخلص من نفاياتها المختلفة بواسطة عمال البلدية الذين يقومون بجمعها مع النفايات العادية ويلقونها في مناطق الطمر الصحي مباشرة، وفق نقيب الأطباء في الديوانية طعمة شناوة.
يؤكد شناوة عدم وجود أي “تنظيم صحي أو قانوني” متبع من الجهات المعنية بشأن معالجة النفايات الطبية الناتجة عن تلك العيادات، والتي تتراكم لساعات على الأرصفة المزدحمة بالمارة والمتسوقين، وتظل في بعض المواقع لأيام من دون رفعها ومعالجتها.
ذلك الواقع لطالما حاول سكان “شارع الأطباء” والحي الذي يضمه، تغييره، من خلال مطالبة الجهات المسؤولة بالتدخل، من دون جدوى، كما يقول ذو الفقار حيدر(33 سنة) الذي يسكن في الحي.
مناشدات ومخاطبات رسمية
بناءً على شكاوى متكررة أرسلت مديرية “الاستخبارات ومكافحة الإرهاب” في الديوانية كتاباً سرياً يحمل الرقم 8536 بتاريخ 25/7/2017 إلى دائرة صحة الديوانية، ذكرت فيه أن المخلفات الطبية ترمى في حاويات النفايات العادية وبشكل عشوائي وقد أصبحت “وبالاً” على ساكني المنطقة.
لكن أي تغيير في التعامل مع تلك النفايات الخطرة لم يحصل. فكررت المديرية المذكورة مخاطبة دائرة صحة الديوانية في 24/9/2018 مؤكدة أن المشكلة ما زالت قائمة ولم يتخذ أي إجراء من قبل الجهات المعنية.
في 8/11/2018 وجهت دائرة صحة الديوانية في خطاب رسمي، شعبة المؤسسات الصحية غير الحكومية في الدائرة ذاتها، بعدم تجديد أو ترويج معاملات المختبرات الطبية، إلا بعد توقيعها عقد إحراق النفايات الطبية الخاص بها مع دائرة صحة الديوانية.
لكن الخطاب جاء خالياً من موقف دائرة الصحة، تجاه المخلفات الطبية الناتجة عن عيادات الأطباء والمستشفيات الخاصة.
وتؤكد الدائرة أن فرقها المختصة تقوم بواجبها في “تدقيق سجلات التخلص” من النفايات الطبية الخاصة بالمؤسسات الصحية غير الحكومية في تلك المنطقة. لكن واقع الحال يشير إلى خلاف ذلك، بحسب مواطنين يسكنون المنطقة، ووفق جولات قام بها معد التحقيق، فوجود سجلات إحراق لا يعني التخلص فعلياً من المخلفات الطبية بشكل سليم، بخاصة في ظل غياب رقابة حقيقية على أرض الواقع.
ليس أهمال متابعة المشكلة ولا التقصير في المعالجة، ما يثير الاستغراب وحسب، بل أيضاً طلب دائرة صحة الديوانية وبشكل رسمي من مديرية مكافحة الجريمة المنظمة في المحافظة، التحري عن مصدر النفايات الطبية، كما أشار كتاب الدائرة ذي العدد 3/6 بتاريخ 16/2/2018.
تلوث نهر الديوانية
إضافة إلى عيادات الأطباء الخاصة، في المحافظة 182 مختبراً للتحليلات المرضية، بينها 45 في مركز المدينة، وهناك أكثر من 250 صيدلية، و9 مستشفيات، ثلاثة منها أهلية و6 حكومية، الى جانب 13 مركزاً صحياً تخصصياً، 10 منها حكومية.
تلك المراكز والعيادات والمستشفيات تطرح كلها بشكل مباشر ملوثات سائلة سامة ومن دون أي معالجة في شبكات الصرف الصحي التي تصب في نهر الديوانية، لتشكل تهديداً للصحة العامة فتلك المياه تستخدم في الزراعة وسقي المواشي وتلبية بعض الاحتياجات اليومية فيما يسبح في مياه النهر مئات الأشخاص بخاصة في فصل الصيف.
وبحسب معنيين بالبيئة، تخالف تلك المؤسسات من خلال طرح ملوثاتها السائلة في النهر المادة 3 أولاً من قانون حماية وتحسين البيئة رقم 27 لسنة 2009، من دون أن تتم محاسبتها.
وكان ديوان الرقابة المالية الاتحادي ذكر أن 84 مستشفى في بغداد والمحافظات من أصل 147 تخلو من وحدات المعالجة المطلوبة وبعضها متوقف عن العمل.
ولا أرقام دقيقة عن كميات النفايات الطبية التي تفرزها المؤسسات الصحية غير الحكومية، لكن كثيرين ممن تحدث إليهم معد التحقيق أكدوا أن معظم النفايات الطبية تُخلَط مع النفايات العادية وتجمع في أكياس سود مخصصة للنفايات العادية، ولا يختلف الحال بالنسبة إلى بعض المؤسسات الصحية الحكومية.
تذهب تلك النفايات مباشرة إلى مواقع الطمر، التي لا تتوفر فيها الشروط الصحية الضامنة لسلامة الإنسان والبيئة، كما يقول المختص في شؤون البيئة لؤي محمد كاظم.
ويحدد محمد أبرز شروط الطمر الصحي بأن يكون موقع الطمر “بعيدا عن التجمعات السكانية وان يكون على شكل حفرة عميقة مبطنة من الداخل بأغطية خاصة لمنع تسرب الملوثات إلى الأرض، وان تطمر بكميات كبيرة من التراب”.

“نباشة” المطامر والسرطان
على مسافة نحو 5 كيلومترات عن مدينة الديوانية حيث يقع موقع طمر النفايات، يترصّد خطر كبير العشرات ممن يطلق عليهم “النباشة” وهم أولئك الذين يعيشون على “ما تجود به النفايات”.
يمضي هؤلاء كل يوم ساعات بين أكوام النفايات بحثاً عن أي شيء يصلح للبيع ويؤمن لهم قوت يومهم، كما تقول سعدية كاظم (45 سنة) التي تعمل مع أطفالها الأربعة منذ خمس سنوات في نبش أكوام النفايات.
مرغمة تحت طائل وضعها المعيشي، تواصل كاظم مزاولة ذلك العمل الخطر والمكروه اجتماعياً، على رغم اصابة أطفالها بأمراض جلدية ونوبات ضيق في التنفس، وحتى بعد تمكن السرطان من رفيقتها التي توفيت قبل نحو عام.
تقول وهي تهم بدخول بيتها الطيني الذي تعيش فيه قرب مكب النفايات :”أنا لا أملك بديلاً… فمنذ وفاة زوجي أصبح هذا العمل المنفذ الوحيد لتأمين متطلبات عائلتي”.
يرى الناشط البيئي حيدر عناج أن “سعدية مثلها مثل معظم العاملين في نبش النفايات، لا تدرك أنها وأطفالها يقفون كل يوم على هاوية الموت في هذه البقعة المميتة”.
ويضيف: “هؤلاء يتعاملون أحياناً مع نفايات خطرة، كالنفايات الطبية والأصباغ وبقايا عبوات المنظفات التي فيها مواد كيماوية”.
ويرى عناج أن المشكلة معقدة “عشرات الأطفال يعملون في النبش لإعالة عائلاتهم، هم لا يملكون وعياً بحجم الخطورة التي يواجهونها، وحتى لو أدركوا فهم لا يملكون بديلاً”.
وتشهد المحافظة ارتفاعاً سنوياً بأعداد المصابين بالأمراض السرطانية بنسبة تتراوح بين 15 و20 في المئة، وفق جهات معنية.
وبلغ عدد المصابين في المحافظة أكثر من 5 آلاف. وسجل خلال العام الماضي (2019) نحو 500 إصابة جديدة، بينما سجل في العام الحالي ولغاية 31 آذار/ مارس، 180 إصابة جديدة وفقاً لمصدر في مركز الأورام السرطانية في المحافظة.

من مطمر إلى مكب
ويشغل موقع مكب النفايات الحالي الخاص في مركز محافظة الديوانية، ربع المساحة التي كان يُفترض أن ينشأ عليها مشروع طمر صحي على مساحة 161 دونماً. لكن المشروع الذي كان يفترض أن يبدأ عام 2014 لم ير النور، على رغم إحالته إلى شركة قبرصية، وتحولت تلك المساحة إلى مكب للنفايات يتعرض للتجاوزات والحرق، كما يقول مدير شعبة البيئة في بلدية الديوانية صباح نعمة عبد الواحد.
تنبه مديرة بيئة الديوانية ساهرة الخالدي، إلى أن النفايات في المكب يتم التخلص منها “بطريقة غريبة ومؤذية، فبعد تكديسها لأيام تُفرز خلالها سوائل كثيفة وتنبعث منها روائح خانقة، تحرق وتبقى مشتعلة لأيام إلى أن تنطفئ ذاتياً”.
وتقول إن عمليات الإحراق تزيد من مخاطر الإصابة بالأمراض نتيجة ارتفاع نسبة تلوث الجو بالأدخنة والغازات، وعمال البلدية والنباشة هم الأكثر عرضة لتلك المخاطر، مبينة أن “النباشة وعمال البلدية يتبادلون الاتهامات بشأن مسؤولية كل طرف عن الحرق”.
وبلغ حجم النفايات العادية المرفوعة من مركز الديوانية خلال عام 2018 نحو 198850 طناً، وفق إحصاء رسمي سجلته مديرية بلدية الديوانية.
محارق منتهية الصلاحية
تتعالى كل يوم لساعات أدخنة محرقتي مستشفى الديوانية التعليمي ومختبر الدم الحكومي، اللذين تنبعث منهما غازات سامة بروائحها الكريهة، مشكّلة مصدراً للتلوث وسط الأحياء المكتظة بالسكان.
بحسب مصادر متعددة تحدث إليها معد التحقيق، فإن المحرقتين لا تعملان وفق المتطلبات الصحية والبيئية المطلوبة، كما أن عمرهما الافتراضي انتهى، وهما تعملان تحت ضغط كبير وتستقبلان كميات كبيرة من النفايات لا تتناسبان مع حجمهما وقدرتهما على العمل، ما يضعف قدرتهما على المعالجة، ويضاعف المخاطر.
يقول مدير شعبة البيئة الحضرية في مديرية بيئة الديوانية لؤي محمد كاظم، إن المحرقتين “متهالكتان وتشكلان خطراً على الانسان”.
وتزداد المشكلة تعقيداً عاماً بعد آخر مع تصاعد حجم النفايات الطبية الناتجة من المستشفيات الحكومية الآخذة في التوسع وانتشار المراكز الطبية الأهلية مع تضاعف عدد السكان، وفي ظل غياب المحارق الحديثة وأي مطمر صحي وفق المتطلبات البيئية.
وتحاول دائرة صحة الديوانية منذ سنوات إيجاد حلول لتلك النفايات، فتعاقدت مع المؤسسات الصحية الأهلية على إحراق المخلفات الطبية لتلك المؤسسات في المحارق الحكومية، مقابل مبلغ ألفي دينار لكل كلغ من النفايات الطبية، وبمعدل 20 كلغ لكل مركز أو مستشفى من دون أن تحدد الكمية بوقت معين (يومي، اسبوعي، شهري) ما يزيد الضغط على المحرقة.

تعاقدات وإشكالات
تدون عملية إحراق النفايات الطبية في مستشفى الديوانية التعليمي في سجل خاص يسمى “سجل المحرقة”، ينظمه العامل الوحيد المسؤول عن الإحراق جواد البديري، الذي يكتفي بكتابة اسم المؤسسة الصحية وتاريخ الإحراق، بخط يصعب قراءته فهو لا يحمل أي شهادة دراسية وبالكاد يعرف الكتابة.
ويتضمن العقد بين صحة الديوانية والمراكز الطبية الأهلية شروطاً عدة، من بينها عدم أحقية تلك المراكز في الاعتراض أو طلب تعويض في حال تعطل المحرقة الحكومية لأي سبب كان، ما يعني أن دائرة صحة الديوانية تخلي مسبقاً مسؤوليتها بشأن التخلص من النفايات ولا تضع بديلاً، على رغم علمها بكثرة أعطال المحارق والتوقف المستمر لأجهزة فرم النفايات الطبية.
كما يفرض العقد غرامة مالية مقدارها 25 ألف دينار (نحو 20 دولاراً) في حال مخالفة تلك المراكز الطبية شروط التعاقد، ويتم إنهاء عقدها عند ارتكاب ثلاث مخالفات متتالية وتحرم مستقبلاً من التعاقد مع دائرة صحة الديوانية، لكن لا أحد يسأل عن مصير النفايات الطبية لتلك المراكز في حال حرمانها من التعاقد في ظل عدم وجود بديل؟!
ووفق العقد على المؤسسات الصحية المتعاقدة أن تجمع نفاياتها الطبية وتضعها في أكياس وعبوات مخصصة تلائم طبيعتها، ثم تنقلها إلى الموقع الذي تحدده دائرة صحة الديوانية، بحسب جدول زمني يتفق عليه الطرفان.
كما يفترض بصحة الديوانية أن تقوم بوضع سجل تدون فيه كمية النفايات المستلمة وأوقات استلامها وإحراقها، ويخضع السجل لتدقيق الجهات الرقابية. لكن السجل الذي يمسكه البديري يفتقر إلى تلك البيانات، ما يؤشر في الوقت عينه إلى غياب الرقابة والتدقيق من الجهات المعنية.
وبحسب قرار لشعبة المؤسسات الصحية في دائرة صحة الديوانية لا يتم تجديد رخص عمل المؤسسات غير الحكومية، إلا بعد إبرام عقد حرق النفايات الطبية، إلا أن القرار لا يجد طريقه إلى التنفيذ والكثير من المراكز الصحية تعمل من دون إبرام عقود حرق النفايات، كما أن إبرام العقود توقف لفترة طويلة بعد نيسان/ أبريل 2019 بسبب إشكالات بين شعبتي “التعاقدات” و”القانونية” في دائرة صحة الديوانية، متعلقة بتحديد الجهة المعنية بالتعاقد.
ليست صعبة معرفة مصير المخلفات الطبية للمراكز الصحية غير المتعاقدة مع صحة الديوانية، في ظل غياب المحاسبة، فهي تصرف مع النفايات العادية.
محارق جديدة لا تعمل
لمعالجة أزمة المحارق القديمة وعدم وجود محارق حديثة في ظل تصاعد حجم النفايات الطبية، تعاقدت وزارة الصحة في العام 2008 مع احدى الشركات لتزويدها بمحارق جديدة ذات كفاءة عالية وبسعة معالجة وحرق تبلغ 30 كلغ في الساعة الواحدة وبكلفة 24 ألف دولار للمحرقة الواحدة.
وبعد خلافات استمرت سنوات بشأن مواصفات المحارق المجهزة وتلك المتعاقد عليها، وعقب قرار قضائي باحتساب الفروقات بين مواصفات المحارق المجهزة والمتعاقد عليها مع الوزارة، صدرت الموافقات باستخدام تلك المحارق في تشرين الثاني/ نوفمبر 2016.
ووجهت وزارة الصحة الدوائر الصحية في المحافظات بالاستعداد لنصب المحارق الجديدة وبدء استخدامها، على رغم اعتراض مديرية بيئة الديوانية على نوعيتها وكفاءتها وتأكيدها أنها مضرة بالبيئة، وفق لؤي محمد كاظم.
بعد ذلك التوجيه الوزاري، أبدت الجهة الهندسية في دائرة صحة الديوانية استعدادها لنصب المحارق البالغ عددها 20 وتشغيلها.
وبعد أعوام من وجودها في المخازن، وزعت المحارق على المراكز الصحية، لكن إلى الآن لم يتم نصب أغلبها وما زال جزء منها مرهوناً بالموافقات البيئية وروتين وزارة الصحة.

خروقات السلامة
مشكلة مخاطر النفايات الطبية، لا تتعلق بانتهاء صلاحية المحارق القديمة ومواصفات المحارق الجديدة، ولا بإدارة عملية معالجة النفايات فقط، بل في مجمل عملية إدارة المؤسسات الصحية، فبجولة تفقدية سريعة لبعض المراكز الحكومية والأهلية ستجد أن النفايات الطبية ترمى في الحاويات الاعتيادية، وستشاهد كميات منها مركونة في أكياس بشكل عشوائي.
وبحسب تقارير زيارات ميدانية نفذها مختصون في شعبة السيطرة على التلوث وقسم التفتيش والشكاوى في دائرة صحة الديوانية، إضافة إلى تقارير لمديرية البيئة، أطلع عليها معد التحقيق: لا توجد إدارة جيدة للنفايات الطبية، ولا تتبع إجراءات السلامة من العاملين على جمعها ومعالجتها.
ويوضح أحد التقارير أن “أغلب العمال لا يرتدون القفازات الطبية والملابس الواقية ولا يستخدمون الكمامات الطبية، كما لا يجهد العمال أنفسهم في عزل النفايات الطبية عن العادية وغالباً ما يضعوها في الحاويات غير المخصصة ومن دون أغطية محكمة”.
ويبرر مسؤولون في صحة الديوانية ذلك “بوجود نقص في الكوادر المتخصصة بإدارة النفايات الطبية، وغياب التدريب الضروري للعاملين وتوعيتهم بالتعليمات والضوابط المتعلقة بعملهم”.
وتفتقر معظم المؤسسات الصحية الحكومية والأهلية إلى الملصقات التعليمية والدلالية حول كيفية التعامل مع النفايات الطبية ومكان جمعها.
تلوث ولا مبالاة
في جولة قام بها معد التحقيق في الباحة الخلفية لمستشفى النسائية والأطفال بالديوانية، كانت النفايات الطبية تشغل مواضع في المكان وقد تناثرت مع ملابس وأغطية رميت في الساحة المحيطة بجهاز التقطيع والتعقيم، وأمام الباب الخارجي للجهاز المعني بمعالجة النفايات الطبية، كانت بقايا نفايات مقطعة إلى قطع صغيرة مركونة إلى جانب حاوية زرقاء فيها بعض أكياس النفايات المرمية على الأرض.
ويكشف جهاز الرقابة الصحية وموظفو السيطرة على التلوث في أحد تقاريرهم المحلية ومن خلال خبرتهم داخل المؤسسات الصحية الحكومية عن “خروق متعددة في إدارة النفايات الطبية”.
ويظهر تقرير إحدى الزيارات إلى مستشفى الحسين الحكومي أن “النفايات الطبية متناثرة على الأرض داخل أروقة المستشفى وقرب الحاويات وكانت مخلوطة مع النفايات العادية”.
وقال تقرير آخر يخص مستشفى النسائية والأطفال: “وجدت حاويات النفايات الطبية من دون أغطية في الردهات والممرات بل وحتى داخل صالات الولادة والعمليات والمجموعات الصحية”.
وأشار التقرير إلى “عدم عزل النفايات الطبية عن العادية وفي أماكن حساسة داخل المستشفى مثل (صالة الخدج) ووحدات الأطفال وسحب الدم وصالات العمليات”.
ولا تتوفر في مستشفى النسائي “غرفة لعزل النفايات الطبية وجمعها، فهي تجمع أحياناً في المجاميع الصحية داخل صالة الولادة، ثم ترمى خلف المستشفى بشكل عشوائي مع الأغطية والملابس الملوثة”.
ولا تقتصر التجاوزات على المستشفيات الحكومية، بل تتكرر في المستشفيات الأهلية التي يفترض أنها تقدم خدمات أفضل. ففي تقرير لفريق رقابي رُصدت خروقات داخل مؤسسات صحية أهلية، بينها احتفاظ أحد المستشفيات بنفاياته الطبية في غرفة التعقيم داخل صالة العمليات، ولم يُحدث المستشفى سجل التخلص من نفاياته الطبية لأيام، ما يعني تخلصه من نفاياته من طريق خلطها مع النفايات العادية.
وترصد جهات مختصة في مديرية بيئة الديوانية، مخالفات كثيرة في مؤسسات صحية حكومية وأهلية، وتوجه إنذارات وغرامات، لا تشكل رادعاً، بحسب معنيين، فالمراكز الأهلية تستقطع الغرامات من المبالغ التي تستحصلها من المراجعين، فيما تكتفي الحكومية بحفظ إشعارات المخالفات في سجل الوارد من دون متابعة أو تصحيح.
.
أطنان من النفايات
بلغت كمية نفايات مستشفى النساء والأطفال خلال ثلاثة أشهر 10280 كلغ، في حين بلغت كمية نفايات مستشفى الديوانية التعليمي 25050 كلغ بحسب الكتاب الصادر من محافظ الديوانية زهير الشعلان، المرقم 3606 في 21/8/2019 والموجه الى مكتب وزير الصحة بخصوص توقف أجهزة التقطيع والتعقيم عن العمل.
ومع تكرار توقف جهاز التقطيع والتعقيم عن العمل وأحياناً لأشهر، يتم اللجوء إلى استخدام محرقة مختبر الدم الحكومي، وهذه الأخيرة ممنوعة من العمل بسبب خطورتها الصحية والبيئية، كما تقول ساهرة الخالدي المسؤولة عن مديرية البيئة في المحافظة، بسبب ما تطرحه من غازات وأدخنة تلوث الجو وتؤثر في الجهاز التنفسي للأفراد في تلك المنطقة.
يقسم أسعد ناظم جبر، مسؤول شعبة مراقبة التلوث الاشعاعي في بيئة الديوانية، النفايات الطبية إلى مخلفات عادية وأخرى خطرة تحتوي على مواد معدية وسامة، “هناك نفايات كيماوية ومخلفات معدية كفضلات الزرع المختبري وفضلات ردهات الحميات والعمليات الجراحية والضمادات وأنسجة وأعضاء المرضى والأجنة والسوائل والدم، ومخلفات الصيدليات مثل الأدوية منتهية الصلاحية والمواد المختبرية ومواد التحميض والتعقيم وبعض الأدوية المستخدمة لمرضى السرطان بمختلف أنواعه. كما أن هناك مخلفات حادة كالشفرات الجراحية والحقن وأجهزة إعطاء السوائل والدم وحاويات الأوكسجين”.
ويقدر جبر مخلفات المراكز الصحية الحكومية بين 2 و3 كلم من النفايات الطبية لكل مركز يومياً، بينما تقدر كمية النفايات الطبية التي تطرحها المستشفيات الأهلية يومياً بما بين 3 و5 كلغ لكل مستشفى، أما المستشفيات الأهلية التي تُجري عمليات ولادة، فتصل نفاياتها الطبية إلى 7 كلغ يومياً.
جبر، أكد أن العيادات الطبية الخاصة في شارع الأطباء وفي الأحياء السكنية تخلف بدورها نفايات طبية خطرة تحتاج الى معالجة، لكنها ومنذ عام 2014 خارج رقابة الفرق البيئية المتخصصة بسبب إلغاء المخصصات المالية للساعات الإضافية لعمل تلك الفرق.
وينبه إلى عدم كفاءة العاملين على حرق النفايات الطبية في المؤسسات الحكومية، موضحاً أن عملية الحرق لا تحصل بالشكل المطلوب “فتخلف الكثير من الملوثات بما فيها الأحياء المجهرية”.
تحذيرات
يحذر جبر من تداعيات حرق المخلفات الطبية في مكبات النفايات “هناك كوارث بيئية تحصل مع ارتفاع درجات الحرارة واشتعال الحرائق فيها وانبعاث الغازات الناتجة من تكدس النفايات”.
ويضيف: “على رغم توجيهات مديرية البيئة بغلق مكبات النفايات تلك، إلا أن الجهات المعنية لم تستجب وتستمر في استخدام تلك البؤر الملوثة”.
وترى الباحثة في مجال علوم الحياة هبة عباس أن التخلص من النفايات الطبية بلا معالجة ورميها في مكب النفايات العادية، “يخلقان بؤرة أمراض خطرة تهدد حياة النباشة وعمال البلدية بشكل مباشر والسكان المحيطين بشكل غير مباشر”، محذرة من “انتشار العدوى البكتيرية أو الفايروسية التي تنتقل بسهولة إلى الإنسان بمجرد العبث بالمواد الملوثة أو لمسها”.
عباس نبهت إلى “خطورة بكتيريا الكزاز الموجودة في المخلفات الطبية الحادة مثل المشارط والحقن الملوثة، إضافة إلى الطفيليات الناتجة من المخلفات الطبية ذات الصلة بمختبرات الدم والتحاليل والعمليات”.
وقالت: “تلك المكبات تشكل خطراً على صحة الإنسان من خلال الانبعاث الغازي السام، والسوائل الثقيلة التي تخلفها، بخاصة عند تفاعلها بسبب الحرائق، والتي تنتقل مع الدخان إلى الجهاز التنفسي للإنسان، ما يهدد بإصابته ببعض الأمراض السرطانية”.
في انتظار تحقيق معالجات جذرية لمشكلة النفايات الطبية ولموقع “الطمر الصحي” في الديوانية يواصل جواد البديري عمله اليومي وبراتب شهري لا يتعدى 150 دولاراً في حرق النفايات الطبية بمستشفى الديوانية التعليمي متجاهلاً المخاطر الصحية العديدة، بينما ينبش آخرون النفايات في المكب الذي ينتظر أن يصبح مطمراً صحياً، بحثاً عن أي شيء يمكن أن يتحول إلى مال يؤمن لهم لقمة عيشهم.
أنجز التحقيق بدعم من شبكة “نيريج” للصحافة الاستقصائية