فقر وبطالة وخوف…كورونا يقلب حياة العراقيين ويكشف هشاشة النظام الصحي
لأهمية التحقيق تعيد الأهالي ريبورت نشره/ التحقيق منجز بدعم من شبكة نيريج للصحافة الاستقصائية:
“أين الحكومة؟ نحن في حرج أمام عائلاتنا وأطفالنا، ولا أثق بانتهاء انتشار الفايروس. كانوا يتحدثون عن أيام وها هو الحظر يمتد لأكثر من شهر”.
بعد نحو شهر من تطبيق حظر التجوال، بدت الطرق المؤدية إلى ساحة التحرير مروراً ببعض أشهر فنادق العاصمة العراقية، شبه خالية. لا حركة إلا لبضع سياراتٍ أمنية وعدد قليل من المتسوقين على امتداد شارع السعدون الى منطقة الكرادة التي كانت أسواقها أحدى أكثر مناطق بغداد ازدحاماً، قبل أن يتسلل فايروس “كورونا” إلى البلاد ويقلب حياة العراقيين إلى عزل وعوز.
في الأحياء الشعبية في بغداد وفي أطرافها يبدو التزام الأهالي أقل، لكن تظل الحركة محدودة مع منع التنقل بالسيارات وعدم قدرة عشرات الآلاف من العاملين في قطاعات مختلفة على الالتحاق بأعمالهم الخاصة، ما يضعهم على حافة خط الفقر ويضيف مشكلة جديدة إلى قائمة طويلة من المشكلات المستفحلة في العراق.
شمالاً في إربيل، يسود الهدوء الشوارع المحيطة بالقلعة التاريخية التي تتوسط المدينة ذات المراكز التجارية الحديثة والتي لم تكن بعض مناطقها كشارع الإسكان يعرف النوم قبل أزمة “كورونا”. فقط سياراتٌ للشرطة كانت تقطع تقاطعاً رئيسياً لرصد مخالفي إجراءات الحظر.
يتكرر المشهد على نحو مقارب في البصرة جنوباً كما في الأنبار غرباً، وإن لم تسجل فيها سوى إصابتين، وحتى في النجف وكربلاء حيث تنتشر المراقد الدينية التي تستقبل في العادة آلافاً من الزائرين يومياً، بدت مداخل المراقد وزواياها خالية والحياة شبه متوقفة.
يقول حيدر (38 سنة) الذي يعمل في محل تجاري في السوق القديم بالنجف القريب من مرقد الامام علي “لم أر في حياتي مشهداً كهذا … المرقد والشوارع وبعض الأسواق تكاد تخلو من البشر .. الحياة هنا شبه متوقفة … المدينة تعيش على زائريها الغائبين.. لا يُصدق ما فعله الفيروس بنا”.
إجراءات لمنع “الكارثة”
منذ مطلع شهر آذار 2019 فرضت السلطات العراقية حظرا للتجوال في معظم المحافظات كحل وحيد لمنع انتشار الفيروس في البلاد التي تعاني من سلسلة أزمات اقتصادية وسياسية وأمنية، وشهدت احتجاجات شعبية لتغيير النظام السياسي وإنهاء الفساد استمرت لنحو خمسة أشهر قبل أن تتجمد على اثر انتشار الفيروس الذي عطل التجمعات.
وبحسب الأرقام الرسمية، تم تسجيل 1415 إصابة، (بينها 335 في إقليم كردستان) و79 حالة وفاة حتى 15 نيسان/ أبريل، لكن عدد الفحوصات التي تم إجراؤها تظل محدودة فهي تركز على من تظهر عندهم الأعراض ومن يلامسون المصابين وتتجاهل غيرهم، ما يعني احتمال وجود أعداد أكبر من الإصابات غير المسجلة لعدم ظهور الأعراض لدى أصحابها.
“إنها معضلة، اغلاق الحدود غير ممكن فنحن نستورد معظم حاجاتنا الأساسية من خارج البلاد… وإبقاء الحدود مفتوحة يعني إبقاء احتمال وصول الفايروس من هناك”.
“كورونا” تسرب من الحدود الإيرانية… وتحالف الفقر مع العادات والمعتقدات
وشكلت حكومة تصريف الأعمال بقيادة رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي، خلية أزمة لمكافحة المرض والحد من انتشاره في منتصف شباط/ فبراير 2020، ومن ثم شُكلت لجنةً عليا للصحة والسلامة الوطنية مع اكتشاف أولى الحالات في المدن الدينية ومن ثم المحافظات المتاخمة للحدود مع إيران، واتخذت قرارات وإجراءات احترازية كحظر التجوال وإيقاف الدوام بالمدارس والجامعات، وتقليص العمل في الدوائر الحكومية، لتجنب تفشي الفايروس في ظل نظام صحي يوصف من قبل معنيين بالمتهالك نتيجة قلة المستلزمات والأبنية وحتى الكوادر.
لكن بعض تلك القرارات لم يجد طريقه إلى التطبيق على أرض الواقع في الأيام الاولى لإصداره، فشارك آلاف الشيعة في زيارة مرقد الإمام موسى الكاظم في بغداد، وفي إقليم كردستان احتفلت آلاف العائلات بعيد نوروز، واستمر البعض في إقامة مراسم العزاء وتبادل اللقاءات العائلية، قبل أن ترتفع أرقام المصابين من بضع عشرات إلى المئات وتتعالى معها تحذيرات المختصين من قرب “وقوع الكارثة” في بلد يقدر عدد السكان فيه بحوالى 40 مليوناً، وهو ما فرض على الحكومة التشدد في إجراءاتها ونشر رجال الأمن والجيش في بعض المناطق السكنية لمنع خروج الناس من منازلهم.
يقول الطبيب حازم أحمد إن البلاد لا تملك أي مقومات لمواجهة تفشي الفايروس، “لا أسرة كافية ولا معدات ولا حتى كوادر، الحل الوحيد في تشديد إجراءات الحظر فلا وسيلة أخرى أمامنا… إذا كان الأوروبيون بأنظمتهم الصحية المتقدمة يخسرون الآلاف من أبنائهم كل يوم بالفايروس فما الذي سيحدث عندنا؟”.
ويقول جواد الموسوي عضو لجنة الصحة وخلية الأزمة النيابية، إن النظام الصحي في العراق سيبدأ بالانهيار في حال تجاوز عدد الإصابات خمسة آلاف إصابة، مشيراً إلى جود ما بين 8 إلى 10 آلاف حالة مشكوك فيها وهم في الحجر المنزلي بسبب عدم القدرة على حجرهم في المستشفيات وعلى وزارة الصحة التعامل مع ذلك بدقة.
وينبه الموسوي في تصريحات صحافية، إلى أن الفترة القصيرة المقبلة هي الأخطر في مسار التعامل مع الفايروس في العراق. وينقل عن “خبراء وزارة الصحة “تأكيدهم لخلية الازمة أن أسوأ الاحتمالات هو إصابة حوالى 200 ألف شخص بالفايروس”، داعياً إلى تريث الحكومة في تخفيف إجراءات الحظر على الأقل لمدة أسبوعين واعادة تقييم الوضع.
وبعد نحو 6 أسابيع من الحظر، يؤكد مسؤولون صحيون وإداريون، أن “الأمور تحت السيطرة”، وأن خطر تفشي الفايروس سيتراجع مع استمرار تطبيق الحظر لأسابيع أخرى، لكنهم يتجنبون الحديث عن التأثيرات الاقتصادية للحظر الذي حرم مئات الآلاف من العاملين في القطاع الخاص من مصادر دخلهم ووضعهم في مواجهة الفقر.
لا يجدون قوت يومهم
“ذلك لا يعني نجاحاً، ولا أن الأمور تسير على نحو جيد” يقول حسين عبدالله (42 سنة)، بينما يقف على باب منزله مع اثنين من أصدقائه في منطقة الشعب في بغداد. ويتابع “هناك آلاف الناس لا يخرجون للعمل، عمال البناء والمطاعم والخدمات، سائقو سيارات التاكسي، أصحاب البسطات وكثيرون غيرهم، منذ أكثر من شهر بلا مورد مالي، كانوا يعتمدون كلياً على ما يجنونه من عملهم اليومي، هم لا يجدون اليوم قوت يومهم”.
ويضيف عبدالله، وهو مهندس كهربائي يعمل بالقطاع الخاص ويعيل عائلة تضم تسعة أفراد “معظم العاملين في القطاع الخاص اصبحوا بلا عمل.. لايمكن أن يستمر الامر هكذا، صرفت كل مدخراتي، بعد أيام على الاستدانة أو أن أقبل السلات الغذائية التي توزعها مؤسسات دينية على الفقراء والمعدمين… لم أجد نفسي في وضع كهذا في حياتي”.
يقاطعه جاره جواد، بينما كان يشير إلى والدته وزوجته وطفليه ليدخلوا المنزل: “الحكومة تفرض الحظر لكنها لا تفكر بإعانة من فقدوا أعمالهم كما في بقية دول العالم… ليس كل الناس موظفين، أنا عاطل من العمل منذ شهر، هل فكرت الحكومة بمصير عائلتي؟”.
ويضيف جواد الذي يعمل سائق سيارة أجرة، وهو يضرب كفيه ببعضهما بعضاً: “أين الحكومة؟… نحن في حرج أمام عائلاتنا وأطفالنا، ولا أثق بانتهاء انتشار الفايروس… كانوا يتحدثون عن أيام وها هو الحظر يمتد لأكثر من شهر”.
انتهى الموسم السياحي
في اربيل لا يختلف الحال، يقول خدر علو، وهو شاب ايزيدي من سنجار يعمل منذ 4 أعوام في أحد فنادق عاصمة إقليم كردستان: “في مطلع شهر نيسان تم تسريحنا من العمل أنا وزملائي، قال لنا مدير الفندق إن الموسم السياحي انتهى ولن يكون هنالك زبائن وسياح قبل أشهر… لا أعرف ماذا أفعل، عائلتي تعتمد على ما أرسله إليها من مال شهرياً”.
علو، قرر البقاء في أربيل لعله يعثر على عمل بديل “أصدقائي عادوا إلى بيوتهم، أنا قررت البقاء فهناك خمسة أفراد في عائلتي يعتمدون علي، وثلاثة أيتام من عائلة شقيقي الذي قتل أثناء هجوم داعش على سنجار في صيف 2014”.
يقول مدير الفندق الذي عمل فيه علو، والذي يضم أكثر من 50 غرفة إن “المشكلة كبيرة بالنسبة إلى كل العاملين في قطاع الخدمات… الموسم السياحي انتهى قبل أن يبدأ، وكما ترى الفندق فارغ تماماً، ولا يمكننا أن ندفع للعمال لأكثر من شهر في ظل غياب الزبائن”.
في صالة قريبة من الفندق حولت إلى كافيه شبابي، كان يجلس عامل الخدمة زياد وحيداً على أريكة طويلة وهو يتابع آخر أخبار انتشار الفايروس.
يقول، بينما تعلن القناة التي كان يتابعها عن اكتشاف حالات جديد للإصابة في أربيل: “نحن منذ ستة أسابيع على هذه الحال بلا عمل، ولا أمل بقرب افتتاح الكافيهات، وسيحل شهر رمضان قريباً… ثلاثة أشهر بلا عمل بالنسبة إلي كارثة”.
ويُخاطب المسؤولين: “كان على من فرض الحظر الكلي التفكير بأوضاعنا أيضاً. ليس كل الناس موظفين لدى الحكومة”.
ومع توقف السياحة لحقت أضرارٌ كبيرة بأصحاب المشاريع السياحية الاستثمارية وليس العمال فقط. وتقدر هيئة السياحة في السليمانية خسائر القطاع بنحو 100 مليون دولار مع فقدان عشرة آلاف عامل وظائفهم.
المصدر الأول للفايروس
في 24 شباط جاء الإعلان عن تسجيل أول إصابة بفايروس “كورونا” في محافظة النجف فيما كانت التقارير تشير إلى انتشار كبير للفيروس في إيران التي تمتد حدودها مع العراق على مسافة أكثر من 1400 كلم وفيها آلاف العراقيين بقصد الدراسة أو التجارة أو السياحة وزيارة المراقد الدينية.
تم التعامل مع تلك الحقيقة بالكثير من الإهمال، فالطائرات العراقية ظلت تنقل مئات العائدين إلى البلاد من دون أخذ الاحتياطات المطلوبة كالحجر الصحي، فيما بقيت الحدود شبه مفتوحة لعودة آلاف العراقيين وللتجارة.
في الأسبوعين الاخيرين من شباط وطوال أسابيع شهر آذار/ مارس، بدأ تسجيل الإصابات يتصاعد في المحافظات الدينية (النجف وكربلاء) وفي تلك المتاخمة للحدود مع ايران (السليمانية، البصرة، أربيل).
يقول دلير احمد، وهو موظف صحي: “كان ذلك مؤشراً واضحاً على أن ايران شكلت المصدر الأول للفايروس بالنسبة إلى العراق، قبل أن تأتي الحالات التالية من دول أوروبية”. ويضيف: “لا تزال تلك المحافظات مع بغداد ذات الكتلة السكانية الكبيرة، تسجل أعلى أرقام الإصابات، في حين أن بقية المحافظات أرقامها أقل، وتكاد تنعدم الإصابات في المحافظات ذات الغالبية السنية غرب العراق التي لا يزور سكانها إيران”.
ففي نينوى (400 كلم شمال بغداد) والتي تضم نحو أربعة ملايين نسمة، تم الإعلان عن خمس إصابات. ويفسر طبيب الباطنية سلوان محمد سعيد ذلك بالقول إن “احتكاك نينوى بمناطق شكلت مركزاً للوباء كإيران يكاد يكون معدوماً، كما أن مطارها الذي دمرته الحرب لم يُعَد إعماره”.
وحتى مع اكتشاف عشرات حالات الإصابة في منتصف آذار لم تتخذ السلطات إجراءات حاسمة لإغلاق البلاد، ومنع آلاف الزوار من الوصول إلى مرقد الإمام موسى الكاظم شمال بغداد بضغط من رجال دين، أبرزهم مقتدى الصدر، وبعد شد وجذب بشأن جدوى تعقيم المراقد الدينية، شُددت الإجراءات بنحو أكبر في الأسبوع الأخير من آذار وشُمِل الزائِرون بحظر التجوال.
“كان ذلك كفيلاً بنشر الفايروس بين مئات العراقيين”، يقول مسؤول في صحة بغداد، رفض الكشف عن اسمه. ويتابع: “لم يتم ادراك خطورة الوضع إلا حين بدأت ايران تعلن عن أكثر من 100 حالة وفاة يومياً، وعن آلاف الإصابات، بينهم نواب إيرانيون ومسؤولون كبار في الدولة”.
إعانة ملايين المتضررين
مع انتشار الفايروس وتشكيله تهديداً كبيراً ومع فرض الإغلاق وحظر التجوال المشدد، بات نحو عشرة ملايين عراقي يشكلون مليوني أسرة جلهم من الكسبة يعانون من الفقر، بحسب اللجنة العليا للصحة والسلامة الوطنية.
وفي ظل تأخر تحرك الحكومة، برز الجهد الشعبي الطوعي بتوزيع السلال الغذائية في مختلف المحافظات، وتحول الكثير من الناشطين المعتصمين في ساحة الاحتجاج إلى فرق طوعية إغاثية.
وتداولت وسائل التواصل الاجتماعي الكثير من الصور ومقاطع الفيديو التي وثقت حملات توزيع السلال الغذائية منها حملة أطلق عليها في بغداد “اكفل يتيماً”. فيما انخرطت إدارات العتبات الدينية في جهود توزيع المعونات الغذائية، قبل أن تخصص الحكومة 600 مليار دينار لتوزيعها على المحتاجين وبواقع 30 ألف دينار للفرد أي نحو 22 دولاراً.
وأعلنت اللجنة العليا للصحة والسلامة الوطنية، في 11 نيسان عن إطلاق “منحة العائلات المستحقة للدعم الحكومي جراء وباء كورونا وحظر التجوال” من خلال التقديم عبر رابط إلكتروني يفتح على الهواتف والحواسيب الشخصية، ويتم التقديم من خلال رقم الهاتف الشخصي لرب الأسرة وفقاً للبطاقة التموينية.
ويشترط على المتقدمين ألا يكون أي من أفراد أسرته ممن يستلم راتباً من الحكومة سواء كان موظفاً او متقاعداً أو مشمولاً بشبكة الحماية الاجتماعية، أو يستلم اي راتب أو دخل آخر من الحكومة. ولا تشمل المنحة الميسورين.
عفو خاص وتسهيلات
وفي خطوة أخرى لتجنب انتشار الفايروس في السجون ومراكز التوقيف، باشرت محاكم الجنايات والجنح والتحقيق في مناطق استئناف بغداد والمحافظات بإطلاق سراح متهمين وموقوفين بكفالات ضامنة بحسب توجيهات مجلس القضاء الأعلى القاضية باتخاذ إجراءات استثنائية للحد من انتشار الفايروس.
وسلمت حكومة تصريف الأعمال رئاسة الجمهورية توصية بإصدار عفو خاص عن المحكومين بمن أكمل نصف مدة محكوميته أو بقي منها أقل من سنة أو المحكوم عليهم بعقوبة حبس لسنة أو أقل من ذلك مستثنيةً الجرائم الواقعة على الحق الخاص، إلا بعد تنازل المدعي بالحق الشخصي. كما تم استثناء المحكومين بارتكاب جرائم دولية وإرهابية ومخلة بأمن الدولة، وجرائم الاتجار بالبشر وحيازة الأسلحة الكاتمة والمفرقعات واستعمالها، والفساد المالي والإداري، والاتجار بالمخدرات وغسيل الأموال وجرائم الخطف والاختلاس وإهدار المال العام، وجرائم تهريب الآثار وتزييف العملة وتزوير المُحرّرات الرسمية.
وشكك الأكاديمي الجامعي د. صدام خزعل من أن يؤدي العفو الخاص إلى تخفيف الزحام في مواقف والسجون العراقية بسبب كثيرة الاستثناءات الواردة فيه. فضلاً عن وجود تناقض في أحد بنوده والمتمثل باستثناء جرائم الفساد المالي والإداري ثم عادت وأجيزت إمكانية شمول العفو مرتكبي جرائم إهدار المال عمداً في حالة سداد ما بذمة المتهم قبل إطلاق سراحه.
وقال خزعل: “جرائم إهدار المال عمداً هي من جرائم الفساد المالي والإداري المنصوص عليها في المادة 340 من قانون العقوبات العراقي 111 لسنة 1969 لذا لا يمكن استثناؤها”.
نقابة المحامين بدورها طالبت بإصدار عفو عام عن المحكومين مع استثناء مرتكبي الجرائم الإرهابية، والتفريق بين الجريمة ذات الطابع السياسي والجريمة الإرهابية عن الجريمة العادية. ودعت إلى أن يكمل المحكومون في السجون من غير العراقيين مدد محكومياتهم في بلدانهم التي يحملون جنسياتها باعتماد الاتفاقيات الدولية التي تحكم هذا الشأن.
في إقليم كردستان، أعلن مجلس القضاء الأعلى عن إخلاء سبيل 826 سجيناً في محافظات اربيل ودهوك والسليمانية، شملهم القرار الحكومي بـ”الإفراج الشرطي” للحيلولة دون تفشي الفايروس بين صفوف النزلاء في السجون التي تستقبل أعداداً تفوق بكثير ما تفرضه المتطلبات الدولية.
مجالس عزاء
وعلى رغم قرارات الحظر والعقوبات التي تطاول المخالفين بالغرامة أو التوقيف، وتسجيل مئات الإصابات، فان المخالفات استمرت تحت سطوة العادات الاجتماعية ففي أربيل أقيمت مجالس عزاء في أكثر من حي بالمدينة وفي ناحية داراتو (72 كلم شمالاً)، ما أوقع عشرات الإصابات بحسب سامان برزنجي وزير الصحة في الإقليم ودفع السلطات إلى إغلاق الحي بشكل كامل.
وقررت وزارة الداخلية فرض عقوبات على منظمي العزاء، فيما أعلن الادعاء العام أنه سيوجه تهماً للمصابين في المجلس ذاته بعد تماثلهم للشفاء.
لكن آخرين اختاروا عدم إقامة مجالس عزاء، والاكتفاء بتلقي الاتصالات التلفونية والرسائل النصية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مثل عائلة الحاج محمود في دهوك. يقول ابنها “نحن نقدر التقاليد المتوارثة جيلاً بعد جيل والتي تركز على إظهار التماسك الاجتماعي في أوقات الحزن، لكن مع خطر الإصابة بكورونا قررنا عدم تقبل التعازي المباشرة بوفاة والدنا حتى من أقرب الناس من أجل سلامتهم”.
وآثرت معظم العائلات التي فجعت بفقد أحد أبنائها تقبل التعازي من الأقارب باتصالات هاتفية، فيما يتم تقبل التعازي من العامة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مع الإبقاء على الطريقة العراقية في الإعلان عن الموت بلافتة سوداء من القماش مكتوب عليها اسم المتوفي الكامل وتاريخ وفاته.
ويحصي أحمد عبد الكريم من أهالي قضاء سوق الشيوخ (31 كلم جنوب شرقي الناصرية)، ما يبلغ مجموعه 720 تعليق عزاء على منشور له في “فايسبوك” أعلن فيه وفاة عم له، وتوجب عليه الرد على كل واحد منها.
يقول إن عائلته افتقدت الطقس المعتاد بنصب خيمة طويلة والوقوف لاستقبال المعزين وتوديعهم مع رشقات القبلات وموائد الطعام الممدودة، “هكذا نعرب في العادة عن امتنان لمن وقف إلى جانبنا في مصيبتنا واعتزازنا بفقيدنا من خلال قيامنا بشيء يليق به وبذكراه. لكن مرض كورونا وخوفنا من التسبب بضرر للناس جعلنا نتقبل العزاء بما هو متاح. وقد نقوم بشيء آخر رمزي تعويضاً عن ذلك بعد رفع حظر التجوال”.
مستشفى بدل معرض الكتاب
وفي ظل ضعف القدرات الحكومية لتأمين متطلبات مواجهة الفايروس، انطلقت في معظم محافظات البلاد المبادرات الشخصية من التجار والميسورين والنشطاء لبناء مستشفيات ميدانية مخصصة لاستقبال حالات الإصابة وتجهيزها بالأسرة والمعدات الطبية الضرورية في جهود استباقية لاحتمال تطور حالات الاصابة، إلى جانب تقديم بعض المستلزمات للكوادر الطبية.
ففي الموصل، قامت فرق تطوعية بإيصال الكمامات والقفازات الطبية وأجهزة قياس الحرارة وبعض المستلزمات الأخرى إلى مستشفيي الولادة الموصل العسكري.
يقول الناشط صفوان المدني إن دعم وزارة الصحة محدود جداً لنينوى، وإن عمال الخدمة في المستشفيات لم يستلموا ومنذ أشهر رواتبهم، وهو ما دفع فريقه التطوعي إلى توزيع سلال غذائية على قسم منهم ودفع رواتب لقسم آخر لكي يستمروا في عملهم.
ومن بين المبادرات تحويل قاعات بارك سامي عبد الرحمن في أربيل، التي تعج في نيسان من كل عام بزائري معرض إربيل للكتاب الدولي، إلى مستشفى يضم 250 سريراً بعد ان تم تقسيم قاعة المعرض الى قطاعات ونصب خيم فيها مجهزة بالمستلزمات الأساسية.
وتم تجهيز المستشفى بدعم من إدارة المعرض وشركات محلية وفاعلي خير، وجهات أخرى من بينها مؤسسة “بارزاني” الخيرية وجميعة الهلال الأحمر العراقية.
وفي خضم حرب مواجهة “كورونا” في مجتمع محافظ، دخلت الطواقم الطبية في تحدٍ متعدد الأوجه، فعليه التضحية بعزل أفراده عن عائلاتهم ورعاية المرضى والقيام بحملات التعقيم الى جانب التوعية وإقناع العائلات المصابة بأهمية العزل والحجر وبأنه ليس عيباً أو انتقاصاً أو سلباً للحرية.
تقول الطبيبة جیمن أحمد (33 سنة) التي تعمل نحو 12 ساعة يومياً، إنها عزلت نفسها عن عائلتها وعن طفليها الصغيرين، منذ تسجيل أول إصابة بفايروس كورونا في السليمانية في الرابع من آذار.
جیمن التي التحقت بفرق مكافحة الفايروس وشاركت في حملات تعقيم الأماكن العامة ثم العناية بالمرضى في مستشفى “الشهيد آسو”، كانت تغالب من إعيائها وهي تقول “إنها أصعب فترة في حياتي، ليس لأنني أم تفتقد ولديها، بل لما أخوضه من تجارب يومية وأواجهه من مواقف إنسانية مع المصابين”.
تهديد بالانتحار
وطوال أسابيع شكل التعامل مع المصابين وإقناعهم بإجراءات الحجر والعزل، مسألة حساسة، ففيما تناقلت صفحات التواصل الاجتماعي فيديو لشخص يرفض تسليم والدته للقيام بعملية الفحص والحجر الصحي ويهدد الفرق الصحية والشرطة باللجوء إلى قوة السلاح لمنعهم، هددت عائلة أخرى مؤلفة من نحو ثلاثين فرداً في مدينة الكوت في محافظة واسط بالانتحار الجماعي في حال استمرار الحجر الصحي المفروض عليهم عقب وفاة كبير العائلة نتيجةً إصابته بالفايروس.
يقول أحد المصابين، مبرراً حالة الرفض لفكرة الحجر “المجتمع لا يرحم، حتى الذي يموت ضحية الفايروس يتعرض للتمييز ويدفن في مكان منعزل وبشكل مهين… لا يتقبل المجتمع فكرة أن يصاب أحدهم بالفايروس، الجميع سيحاول تجنبه… أخشى أن يستمر ذلك حتى بعد شفاء الشخص مع الحديث عن احتمال عودة الإصابة”.
ويضيف: “تصور حجم الضغط الذي يمكن أن تعيشه. أن تفقد والدك، وينظر الجميع إليك بعين الخوف، وتأتي الجهات المعنية لتحجر على والدتك وبقية أفراد العائلة… هذا أمر لا يطاق”.
الحظر والخرق
مع التسجيل اليومي لحالات إصابة جديدة، ووسط المؤشرات التي تؤكد تمديد حظر التجوال حتى مطلع شهر أيار/ مايو 2020، تتصاعد أعداد المتذمرين في الشارع، وتتزايد حالات خرق الحظر، وبدأت الشوارع الداخلية والأزقة تشهد تزايداً في أعداد الخارجين من منازلهم من دون عمل ضروري.
وأعلنت قيادة عمليات بغداد في 12 نيسان عن توقيفها 21 ألفاً و89 مخالفاً لتعليمات الحظر، وقيامها بحجز 1259 عجلة ودراجة نارية، وتسجيل 47 ألفاً و984 غرامة، منذ 17 آذار.
يعلق مختار كامل، وهو خريج حاسبات يعمل في محل لتصليح أجهزة الكومبيتر والموبايلات في بغداد “من الطبيعي أن يحدث ذلك، الناس ملوا من الجلوس في بيوتهم، لا يمكنهم أن يتحمّلوا أكثر”.
ويضيف كامل الذي يعيل أسرة من خمسة أفراد “أنا منذ نحو شهرين بلا عمل، كيف سأتدبر أمور عائلتي؟.. حين تقرر الحكومة فرض الحظر وتعتبر التشدد في تطبيقه أمراً ضرورياً لحماية الناس فعليها قبل أن تحاسبني لأنني أخرقه، أن تقدم المساعدة لعائلتي”.
ويعرب كامل عن تشاؤمه، “الأمر لن ينتهي خلال أسابيع، كل يوم هنالك إصابات جديدة، لذا تجد أعداداً إضافية تخرق الحظر. جاري “عباس” الذي يعمل في مجال البناء ذهب اليوم إلى مساطر العمال أملاً بأن يجد عملاً، سيخاطر بحياته وقد يتعرض للتوقيف لتأمين لقمة عيش لعائلته التي لا تعرف الحكومة بوجوها أصلاً”.
بعيداً في أقصى الشمال العراقي على الحدود التركية، ينتظر بسام طه دوره لإكمال معاملة إدخال بضائع عبر معبر ابراهيم الخليل الحدودي. يقول بقلق وهو يشير إلى سيل من الشاحنات التي تدخل من تركيا “كنا في البداية نخشى الوافدين من إيران مع انتشار الفايروس فيها، اليوم صرنا نخشى من تركيا التي تسجل فيها آلاف حالات الإصابة يومياً”.
يضيف وهو يعدل الكمامة التي تغطي نصف وجهه “إنها معضلة، اغلاق الحدود غير ممكن فنحن نستورد معظم حاجاتنا الأساسية من خارج البلاد… وإبقاء الحدود مفتوحة يعني إبقاء احتمال وصول الفايروس من هناك”.
أُنجز التقرير بدعم من شبكة “نيريج” للصحافة الاستقصائية وشارك في إعداده فريق بغداد الاستقصائي