عدالة إلهية قصة: تيلي صالح موسى ترجمة: ماجد الحيدر
(مهداة الى جميع السيدات الواقعات بقبضة داعش)
في تلك الغرفة الأكثر حلكة من السجن، فتحتِ عينيكِ.. رغم أن العالم ما زال مظلما مثل غرفتك ولا يتبين فيه الخيط الأبيض من الخيط الأسود.. عيناكِ تطلعتا من جديد نحو حلقة تلك النجوم اللاتي صرن صديقاتك ورفيقات ليلك، في شباكك العالي كنتِ تستضيفيهن كل ليلة، يسامرنك ويخففن عنكِ، ويدخلن الى قلبك سعادة غريبة، يلاعبنكِ، يضاحكنك، ويخبرنك بأنهن يشعرن بكِ، ثم يضربن لك موعدا في ليلة ظلماء أخرى..
أيها الإله المبجل، لطالما انحنيت لك وما فارقتَ ذهني يوما.. أنا الأخرى تركت نفسي فريسة للجوع والعطش وأعرضتُ عن مسرّات كثيرة كي أنال رضاك.. كنت أغطي شعري ولم أسمح لأي انسان برؤية جمالي، من أجل أن يتحقق ما كانت تقوله أمي “فليحفظك الإله يا ابنتي”
صرخاتكِ ما زالت أصداؤها تترد في كل العالم، عندما ساقوا أباك وأخواك أمام ناظريكِ نحو الفناء.. كنت تظنين أن صراخك يصل الى الإله وكنتِ تنتظرين منه جوابا.. وكنت تطلبين مع كل صرخة تعيديها أن تكوني فداءً لهم:
خذوني بدلا من أبي وأخويّ.. اقتلوني.. خذوني لكم. سوف أخدمكم العمر كله..
لكنها وضعت يدها على فمك وكتمت صوتك وأنفاسك وأبعدتك عن تلك المشاهد، غير أن صوت البنادق كان يبلغ أذنيها فأدركت بجلاء كل ما كان يجري..
أيها الإله المبجَّل. أنا أيضا كنت أرغب بمساعدة الناس جميعا. لقد نبتت محبة البشر كلهم في قلبي.. كنت أحب أبي وأمي.. كنتُ اخدمُ أخوتي.. وكنت، لكي أنال رضاك، أخبرك مع كل طلعة شمس وغروبها بآمالي وأمنياتي.. أنا أيضا كنت أعيش طوع حكمك وإرادتك، وكان مرادي الأول والأخير هو محبتك، هو رضاك عني..
مرة أخرى تبصرين مشاهد الفوضى والزحام في السوق، لقد طُبعَت في عقلك ولا يمكن أن تُمسح بضغطة زر .كنت مكبّلةً مشدودة اليدين بالحبال معروضة للمشترين والبائع ينادي عليك في زهو واعتزاز، يريد أن يبيعك بأعلى سعر!! جمالك كان نقطة قوية في صالحه، كان يتفاخر بقامتك، وعيناك الجميلتان جعلت المشترين يتحلقون من حولك..
“وهل أنا حيوان كي أباع وأشترى؟!! أم إنني دمية مطاطية يقتنونها لأطفالهم؟!!”
كنتِ تريدين أن تخرج كلماتك هذه المكتومة في صدرك من فمك، أن تصرخي بها بأعلى الأصوات.. كنت تريدين أن توصليها الى ذلك الإله الذي أرضِعتِ على يديه.. لكنك كنت تعرفين بأن أحداً لن يلبي نداءك ولن يساوي عندهم شروى نقير؟!!
أيها الإله المبجل، أمي كانت تثق بك كثيرا، وبي أيضا، أنا ابنتها الوحيدة، ولذا أحبتني حبّا جمّا، لكن حبها لك كان يفوق حبها لي. أنا موقنة بأنه ما زال أكبر من حبها لي وأن عشقها لك ما زال أكثر احتداماً !! كل جهود أمي ومساعيها كانت تتلخص في تلقيني المحبة، في أن أنظر للناس جميعا على قدم المساواة، أن أتعلم حسن التصرف معهم، أن يمتلئ قلبي بحبك، أن تزرع ذلك الحب في عقلي وأن أتربى وأكبر تحت ظله، كي أكون قريبة منك على الدوام، أن أعيش معك وأكون في خدمتك..
كانت الليلة البارحة ثقيلة وطويلة عليكِ.. كدتِ أن لا تصدقي عينيك، ذلك الرجل الذي دنا منك في السوق وتأمل صفاتك مليا، لقد ظننتِ بأنه فعل ذلك عن عاطفة أبوية، ولذلك أجبته وأنتِ تبتسمين دون أن تخطر أغراضه على بالك.. لم تتعلمي لغة العيون بعد ولم تفهمي لغة الصمت..
كنتُ صديقة لكل أطفال القرية، كنت أتعامل بنبل ووفاء مع الكبار والصغار، وذلك الإله الذي دلّتني عليه أمي ظلّ معي على الدوام فلقد قالت لي أمي:
“الصالحون يعيشون مع الآلهة”
أنا الأخرى أردتُ أن أكون من الصالحين وأن لا أبتعد عن الإله. أن لا أعدَمَ من رحمته. واظبت على مرافقة أمي لزيارة الصالحين، واعتدت أنا الأخرى على مكاشفتهم بآمالي ومقاصدي، قلبي الصغير كان طافحاً بالمطالب والالتماسات، أنا الأخرى كنت أصارح الإله بأمنياتي بحضور الصالحين…
أيام عديدة مضت من عمرك الغض وأنتِ في هذه الغرفة المقفلة، رغم أنكِ لم تعرفي عددها ولم تفرقي بين الليل والنهار إلا بمساعدة تلك النجمات اللاتي صرن صديقاتك لكن هذه الليلة بالذات أثقلت كاهلك.. إنها ليلة مرعبة، ليلة اغتالت كل آمالك، ليلة موجعة منعتك من بلوغك ربيعك السادس عشر.. كنت غارقة في بركة من الدماء.. ذلك الرجل ذو الضحكة المتوحشة واللحية الطويلة والشعر الأشعث كان ضيفك.. جسدك كله مثخن بالجراح التي تنزُّ دماً.. روحك كلها أوجاع وآلام.. إنك بأنك ممددة وسط نار مستعرة.. فقدتِ كل قدرة على الحراك، دماغك نفسه ما عاد يعمل، دقات قلبك تكاد تتوقف.. لم تعودي تحسّين بجسدك.. عيناكِ انطبقتا وودّعتِ النجمات..
لا تأخذنني.. لا أريد لروحي أن تعلو وتبلغ السماء.. أريد أن أبقى مع صديقاتي.. أن أعيش مع أمي.. لا أريد أن أصل الى حضرة إله لم يسمع نداءاتي وصرخاتي، أريد أن أظلَّ هنا وأن أصادق كل تلكم السيدات اللاتي يعشن آلامي وعذاباتي وأن نشعل نار ثورة الحرية.. أن نستحيل رموزا للحياة وأن نحيي روح الإنسانية في دواخل البشر…
لا تأخذنني.. لا تأخذنني الى أي إله !