2024-11-28

العودة وشيء آخر *

رشيد محمود

قصة: رشيد محمود
ترجمة ماجد الحيدر

كانوا على حق، أشهر عديدة مرت على اتمامي الخامسة والعشرين من العمر دون أن يجدَّ جديد. وما ظنناه جديدا لم يكن غير القديم نفسه وقد تغيرت طريقة عرضه وتقديمه. الحياة نفسها غدت مجرد تفكير يشغلني طوال النهار في تعويض نوم الليل.
هكذا إذن حال الدنيا، وجّه عصاه نحو بيت (المتمرد) وقال له:
– اذهب وانظر لبقرتك الحمراء.**
لم نكن، نحن القرويين، نفهم تلك الأسرار. ولم نكن نعرف إن كانت هذه القصة صحيحة أم لا. لم ندرك ما كان يجري بعد انتصاف الليل في بيت رئيس المريدين، لكنني كنت أقف دائما عند تلك الساقية التي تفصل بيتنا عن التلة التي تبعد نصف كيلومتر، أنتظر الملائكة لعلها تُخرج الشطر الشيطاني من جسدي. لم أكن في الحقيقة راعيا قط. تمددت على الأريكة، النوم يغشاني ولا يغشاني للوهلة الأولى. كانت أمي قد فتحت التلفاز الأسود والأبيض. إنها الحلقة الرابعة عشرة من رفاق الكهف، صوت ماكسميليان يبلغ مسامعي. أرفع رأسي فأسمع أمي وهي تنادي:
– استيقظوا، لن تلحقوا على تناول سحوركم قبل أن يؤذن الملا.
ثمة سفرة تحت مكان نومنا قريبا من الباب. يتساءل أخي إن كان يجوز له الصوم حتى انتصاف النهار فحسب. أحكّ رأسي. ما زال صوت هيلين يتردد في أذني، إنها امرأة حسناء، لكنني لم أجرؤ على قول هذا آنذاك. وضعت كلا قدميَّ على المنضدة القريبة وعدت من جديد الى ما بين اليقظة والنوم.
كان بيتا صغيرا من غرفتين، لم تحتوِ الغرفة الثانية شيئا غير فراش ودولاب للملابس وبعض الحاجات الزائدة. وتناهى الينا صوت الملا وهو يصيح (إمساك)، نادتنا أمي من جديد بشيء من العضب، فعلّقت أختي قائلة:
– هذان ولدان كسولان ولولاك لما صاما أصلا، من يدري؟
رنّ جرس الهاتف، لكن من لديه الرغبة في أن يجيب على الهاتف في هذا الوقت من منتصف الليل (بل في الفجر بالأحرى).. لم اتحرك من مكاني.
هي قرية بعيدة عن المدينة، هذا صحيح، لكنها ليست مقفرة إذ يعيش فيها قرابة اربعين اسرة. كان عمي (أو عم أبي بالأحرى) معلقا بين الحياة والموت. إنها ليلة مظلمة، أردت عدة مرات أن أذهب للتبول لكن باب الخروج يؤدي مباشرة الى البستان الكبير الذي غالبا ما يتواجد فيه المجاذيب. من يعرف من هم أولئك المريدين وما طبيعتهم؟ لكن العجيب أنني استطعت تمييز أصواتهم بعض الشيء. رجل عجوز محني الظهر (رغم أنه لم يكن يبدو جليا لعيني بسبب الظلام الدامس لكن ظهره كان محنيا على الدوام) فتح الباب وتحدث مع نفسه قائلا: مرة أخرى هذا البلاء الذي ابتليت به لم يعد ولم يستفق مما هو فيه. وفهمت من كلامه أن المجاذيب لا يعودون إلا في ساعة متأخرة.
أوقدتُ سيجارة (بعد أن أنزلت قدميّ من المنضدة واستويت جالسا) قالت أمي:
– لولاي لما رضي الله عليكم,
لم أعرف لماذا لا يرضى الله عنا. لقد انتظرت أياما عديدة عند الساقية كي تنزل الملائكة وتخلصني من الشطر الشيطاني اللابث في أعماقي، كي لا أسمع الموسيقى، لكنني لم أفلح في أن أصبح راعيا. فركت عينيّ لكن أجفاني لم تستطع المقاومة فغلبني النوم. ريح قوية كانت تأتي من الخارج، أجفلت من نومي بسبب الأصوات الخارجية وانصفاق الباب. أولى خيوط الشمس بدأت بالظهور. نعم هذا حال الدنيا، لكن ينبغي أن يحدث شيء جديد.
خرج عمي من الغرفة بظهره الأحدب، لم أخرج رأسي من تحت البطانية. قالت له المرأة عسى أن يضمك الله اليه، لأجل خاطر الشيخ رشيد.
تلك أول مرة أدرك فيها أن الله قادر على فعل كل تلك الأمور. فانتظرت أياما عديدة أن تنزل الملائكة وتخلصني من الشطر الشيطاني اللابث في أعماقي، لكنني لم أفلح في أن أصبح راعيا.
*تحفل القصة بالعديد من الإشارات والإحالات الدينية وخصوصا تلك المتعلقة بإحدى الطرق الصوفية التي يبدو أنها تهيمن على القرية الصغيرة حيث تجري الأحداث على مراحل عمرية مختلفة للبطل مثل (المريد) أي عضو الطريقة و(الرئيس) وهو شيخها الكبير وكذلك الساقية التي ينتظر البطل أن تظهر له عندها الملائكة لتخلصه من شطره الشيطاني (وهي ترمز على الأرجح الى عين الماء المسماة بالتسنيم في الجنة) فضلا عن رغبة البطل وهو صغير في أن يصبح راعيا (وهي إشارة الى مهنة الرعي التي مارسها الكثير من الأنبياء قبل نبوتهم) وتقديس أتباع الطريقة، ومنهم الأم، لشيوخهم الكبار، مثل الشيخ رشيد، الذين يساوونهم في القداسة والحظوة عند الله مع الرسل والأنبياء.
**عندما يمتنع عضو الطريقة عن دفع الإتاوة التي قد تكون طعاماً أو جديا أو بقرة الخ فإنه يعتبر متمردا ومغضوبا عليه وإشارة أحد المريدين الى البقرة الحمراء قد تعني أنه سوف يخسرها لأنه امتنع عن تقديمها لهم عن طيب خاطر.
المصدر: مجلة كه لين، العدد 4، شتاء 2018