2024-11-28

العودة*

د.سكفان خليل هدايت

قصص قصيرة
د. سكفان خليل هدايت

امتلأت العيون بالغبطة ، وكان الفرح سماءً مطرزةً بالورد تظلل الجميع ، و كان العريس (كوفان) اكثرهم سعادة..وفي طقس آخر جميل, تحلَق حوله الاصدقاء ، وقد لعبت برؤوسهم سكرة الفرح، اجلسوه على كرسي ، أوقدوا شموعاً في صحن كبير، ثم طفقوا يغنون بصوت حزين آسر عن عريس يودع اهله يوم عرسه، ثم لا يعود..
بعدها جيء بالحناء، فحنوا خنصر يده اليمنى ، عقدوها بقطعة من القماش ، ثم ارتفعت اصوات الالحان الشجية من جديد ، واكمالاً للطقس امتدت الايادي الى كرسي العريس ، فرفعته عالياً في الهواء عدة مرات ، ثم اشتد حماسهم، فقذفوه مرة ومرتين قي الهواء ، وفي المرة الثالثة ، بلغ حماسهم طوراً اسطورياً ، فقذفوه في الهواء عالياً , وبعدها عاد الكرسي الى الاسفل خاوياً بين ايديهم ، بينما تحول العريس نفسه الى غيمة بيضاء.. أخذت تصعد الى السماء شيئاً فشيئاً، وسط دهشة الحضور و هرجهم ..حين ذاك ، هبّت ريح قوية عاتية ، ساقت الغيمة امامها الى بلاد نائيةٍ ، و كلما كانت الغيمة تتهيؤ للنزول ، كانت الريح تشتد فتدفعها الى بلد اخر، واخيراً نزلت الغيمة رذاذاً خفيفاً من المطر في بلد غريبٍ وناءٍ جداً..
سار كوفان في الشوارع تحف به وحدة قاتلة ، شاهد شوارع غربية ، ووجوهاً غريبة ، طرق ابواباً لم تفتح له ، تطلع الى السماء ، فوجدها صفراء خاوية من اي شيء… تمنّى ان يتحول ثانية الى غيمة لتعود به الريح الى بلاده ، ولكن الشرطة تعرفت عليه فساقته امامها الى المركز وابتدأالتحقيق:
– أين وطنك ؟
– وطني هو حيث ترقد احلامي..
– ما هي لغتك ؟
– أتفقهون شدو البلابل؟
– كيف وصلت الى هنا ؟
– لقد اخطفتني الريح العاتية من بين ايدي احبائي ، و بصقتني في ارض غريبة.. اطلقوا سراحه ومنحوه مأوىً ، قائلين له :
– أنت اذن لاجيء…
أراد أن يعمل ، فلم يجد سوى أن يعمل منظفاً للشوارع ، ولكنهم طالبوه بوثيقة تثبت خلوه من الامراض، وشهادة تثبت اهليّته لمزاولة هذا العمل ، واشترطوا عليه معرفة اللغة ..!
قال لهم مستغرباً: هل سأنظف شوارعكم… ام سأغني لها ؟
سار كوفان في دروب غريبة، و أكل طعاماً غريباً، ولبس ملابس غريبة، واخيرا تعلم لغة غريبة , ومارس عاداتٍ غريبة , ولكنه ظل يحلم بان تقذفه يدٌ في السماء ليتحول بعدها الى غيمة كالثلج , تسوقها ريح هوجاء ولا تحط الاَ على ارض بلاده..
وذات ليلة كان القمر فيها مسافرا وحيدا دونما زاد , نام كوفان وهو يحلم بالعودة , وعند انتصاف الليل , ودّعت قدماه بقية الاعضاء , إنسلتا من الغرفة بهدوء, واستأ نفتا رحلةالعودة.. أمّا بقية جسده المعطوب فقد ظلّت دونما حراك , متمنية ان تغدو يوما ما غيمة تعيدها الريح الى حيث تنتمي …
——————————————————
* في الاعراس الكوردية التقليدية ( و في زاخوتحديدا) يخصص و قت لطقس خاص في الليل و هوان يتحلق عدد من الشباب حول العريس الجالس على كرسي فيحنون اصبعه ثم يرفعونه عاليا مع الكرسي عاليا عدة مرات و هم يغنون..

تفاوض

في طرف قصي من القارة السوداء , وبعد حرب أهلية طاحنة احرقت في اتونها اّلاف الرجال , إتفق الطرفان المتصارعان على أن يجنحا الى السلم , ويجلسا الى مائدة المفاوضات , والتى طال امدها هي الاخرى , أسابيع لا بل اشهراً عديدة خلف ابواب موصدة , وفي ظل تعتيم اعلامي مقصود..
واخيرا خرج الطرفان المتفاوضان من القاعة مبتهجين جداً , وذلك ليستعرضا نتائج مفاوضاتهما المطولة امام وسائل الاعلام المتلهفة , والتي بدا لها ان اعضاء الوفدين راضون تماما عمّا حققوه في تفاوضهم.. اذ تعانقوا جهاراً امام عدسات الكاميرات وابتسموا للصحفيين , ثم تطوع أحدهم فتكلم الى وسائل الاعلام بثقة ظاهرة قائلاً:
– ايها الأخوة , أرجو ان لا تقلقوا أبداً , لقد حققنا نتائج باهرة وقياسية , واتفقنا على نقاط جوهرية ثلاث:
1- ان تتوقف محطات الاذاعة لدى الطرفين عن بث المارشات العسكرية.
2- ان يكف كل طرف عن تشويش محطات الاذاعة لدى الطرف الاخر.
3- ان تبثّ محطات الاذاعة لدى الطرفين برامجها لنفس الفترة الزمنية.
وبعدها وتاكيداً لجو الاخوة والوئام , تعانق اعضاء الوفدين ثانيةً بكل ود , على ان يعودوا لإستئناف المفاوضات بعد اشهر قليلة..

طراز خاص جدا*

يُعدُ من النُدرة,ويَهمُهُ ان يرسِّخَ هذا الانطباع عند غيره, فهو قوي دون تماسك, مندفع دون شجاعة.. ويسرهُ أن يروه الآخرون صرحا شامخاً,حتى ولو كان صرحاً من حجر! ويُخَيلُ اليه بأن بمقدوره ان يغير عالماً بأسره مستعيناً بمواهبه,وقدراته, وربما كان حرياً به ان يغير نفسه, لكان ذلك اجدى بكثي..ان لم يكن لاجله, فلأجل الاخرين على الاقل, إن كانوا يهمونه في شيء! ولكنه مع كل ذلك, يسعى جاهداً الى تغيير العالم من حوله ليتلاءم معه, بدلاً من ان يتغير هو ليتلاءم مع العالم..!
ولما كان يعتقد- واهماً- بأن المسعى الاول,هو بحد ذاته عملية اسهل, واجدى له من ان يتغير,وهذا ضرب من الجنون..فأنه يسعى الى مبتغاه بكل ما اوتي من قوة, ودهاء, وقسوة..ومهما كانت تضحيات الغير وآلامهم,وليست تضحياته هواو آلامه.. انه كائن فريد! لا ينظر الى الوراء ابداً, بل الى امامه دوماً, بدقة متناهية, لكن بأنتقائية غريبة, ليرى ما يريد هو ان يراه فحسب..
وعندما تفشل كل مساعيه في تحقيق غايته المستحيلة وهذه نتيجة مُحتمة, يكون الوقت قد تأخر كثيراً على اي اجراء آخر, كأن يتغير هو- مثلاً – حتى ولو شاء ذلك مخلصاً, وهذا مستحيل آخر, فقطار الزمن لا يمر بنفس المحطة مرتين..
وبذلك يتضح مشهد النهاية,على وجه اليقين, بين عالمين نقيضين لا يتلاءمان ابداً,عالم خاص وصغير, مغرق في التفرد والطغيان والقسوة, وعالم آخر كبير ورحب, ينتمي اليه كل الناس , ديدنه العدل, والنتيجة هي فناء احديهما, الذي هو ليس عالمنا نحن, بكل تأكيد..
*في 9/4/2003م.