وسط منافسة محتدمة بين الادارة الكردية والحكومة السورية على شراء المحصول الحرائق تجتاح حقول القمح في شمال شرق سوريا
الأهالي ريبورت:
تستمر منذ ايام الحرائق في حقول القمح بشمال شرق سوريا مدمرة آلاف الدونمات وموقعة خسائر بشرية فضلا عن تهديدها للعديد من القرى، لتترك المزارعين في حالة صدمة كما الادارة الكردية التي كانت تأمل في موسم زراعي غير مسبوق منذ أكثر من عقد.
وخلفت الحرائق خسائر مادية كبيرة جدا، كما أدت الى مقتل عشرة أشخاص واصابة آخرين يومي السبت والأحد الماضيين وفق المرصد السوري لحقوق الانسان، في وقت يرجّح مسؤولون كرد أن تكون الحرائق “مفتعلة” من قبل تنظيمات ارهابية او اطراف تعمل ضد الادارة الكردية.
يأتي ذلك في وقت تحتدم المنافسة بين الادارة الكردية وبين حكومة دمشق على شراء المحصول من الفلاحين، من اجل ضمان الأمن الغذائي لمناطقهم التي تعاني من معدلات مرتفعة من الفقر وقلة فرص العمل.
وتأتي الحرائق في مناطق الجزيرة وعلى جانبي الحدود العراقية السورية، وسط تبادل للاتهامات بالمسؤولية عنها مع استمرار الحرائق وعجز عمليات الاخماد. وشملت الحرائق مناطق القامشلي والحسكة وديرالزور في سوريا، فيما شملت مناطق واسعة بسنجار وبادية الموصل في العراق.
وكانت مديرية الدفاع المدني العامة العراقية، قد اعلنت عن احتراق اكثر من 45 الف دونم من الاراضي الزراعية من 8 آيار 2019 ولغاية 13 حزيران في عموم العراق. وذكرت المديرية في بيان، انها سجلت 296 حادث حريق للمحاصيل الزراعية، مبينة ان المساحة المحترقة بلغت 46016 دونما، والمساحة المنقذة بلغت 1539540 دونما.
لكن حجم المساحات المحترقة في سوريا أكبر بكثير، وشملت كل المناطق الزراعية وليس مناطق محددة، وادت فعليا الى اخلاء عدد من القرى.
وقدّر مسؤول في هيئة الزراعة والاقتصاد في الإدارة الذاتية الكردية حجم “المساحة المحترقة حتى الآن بـ350 ألف هكتار” في محافظة الحسكة وحدها (الهكتار يساوي 10 آلاف متر).
وبحسب المرصد السوري لحقوق الانسان قتل الضحايا العشر ونصفهم مدنيون بينما كانوا يحاولون إخماد عدد من الحرائق امتدت من شرق مدينة القامشلي حتى ريف مدينة الحسكة، اندلعت منذ يوم السبت وما تزال مستمرة في العديد من المواقع وسط عجز السلطات والمزارعين عن وقفها ومناشدتهم للمجتمع الدولي للتدخل ومساعدتهم.
وقال المتحدث باسم الهلال الأحمر الكردي في سوريا كمال درباس لوكالة “فرانس برس” يوم الأحد إن الحرائق تسببت بإصابة خمسة أشخاص آخرين بحروق بدرجات متفاوتة، مبينا أن “الناس حاولوا اطفاء الحريق في الحقول وتمت محاصرتهم من قبل النيران، متسببة بحالات اختناق ووفاة”.
وتبنّى تنظيم الدولة الإسلامية تنفيذ عدد من الحرائق التي حصلت في الاسابيع الاخيرة في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية. كما بعض المناطق الخاصعة لسيطرة اقليم كردستان العراق.
اتهامات متبادلة
ودعا مسؤولون كرد في سوريا الاسبوع الماضي، قوات التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن، إلى مساعدتهم للسيطرة على تلك الحرائق التي اقتربت من آبار ومحطات النفط.ووجهت دعوات الى كل الجهات الاقليمية التي يمكن ان تقدم المساعدة.
ورجح رئيس هيئة الزراعة والاقتصاد في الإدارة الذاتية الكرديّة سلمان بارودو، أن تكون هذه الحرائق “مفتعلة” من جهات هدفها “خلق فتنة بين الناس ومحاربة الإدارة الذاتية” في شمال شرق سوريا.دون ان يسمي جهة محددة.
لكن وكالة الأنباء الرسمية السورية (سانا) اتهمت قوات سوريا الديموقراطية بالوقوف خلف اضرام النيران في حقول الحسكة، معتبرة أنها “تعمد إلى افتعال الحرائق للضغط على المزارعين لمنعهم من تسليم محاصيلهم إلى مراكز الحبوب” التابعة للحكومة.
التهمت ارزاق الأهالي وهددت قراهم
وطوال ايام الاسبوع الماضي شهدت عشرات القرى الكردية حرائق هائلة دمرت المحاصيل الزراعية لا سيما بمنطقتي “ديريك وتربي سبي”، وأُخمدت بصعوبة بالغة بعد أن التهمت مئات الدونمات من المحاصيل.
ويعتمد نسبة كبيرة من المواطنين الكرد في سوريا على الزراعة في تأمين متطلبات معيشتهم طوال عام كامل، ومع امتداد الحرائق أُطلقت نداءات عبر مآذن المساجد لطلب العون لإخمادها.
وأفاد نشطاء من منطقة “تربي سبي” بأن الحرائق اندلعت في المحاصيل الزراعية بقرية “بيازي الكبيرة” والتهمت غالبيتها، كما اندلعت النيران في حقول قرى “نبوعة، كوندك، وكري بري”. وفي المنطقة ذاتها، التهمت النيران مئات الدونمات من المحاصيل الزراعية في قرى “سيحا الكبيرة، الحسناء سوقيا، صوفيا” وغيرها. أما في منطقة “ديريك”، فاندلعت النيران في المحاصيل الزراعية بقرى “معشوق، مصطفاوية، كورتبان، تل جمان” وغيرها، وفق ما نقلته مواقع خبرية كردية.
ولم تتوقف الحرائق عن التهام حقول قرى زراعية كاملة وحسب، بل اقتربت نيرانها من الحقول النفطية والمنشآت التي تعمل على استخراج النفط، وهو ما دفع السلطات الكردية الى ارسال عدد كبير من سيارات الإطفاء واقامة سواتر ترابية حول الآبار النفطية لمنع اندلاع الحرائق فيها واحداث كوارث بيئية واقتصادية اضافية.
منافسة بين الكرد ودمشق
وتتنافس الإدارة الذاتية الكردية والحكومة السورية هذا الموسم على شراء محاصيل القمح الوفيرة هذا العام من المزارعين. ويعوّل الطرفان على القمح، وفق محللين، لأهميته في تحديد سعر مقبول لرغيف الخبز، بما يسدّ احتياجات السكان في مناطق سيطرة كل منهما، وللحفاظ على السلام في مختلف أرجاء البلاد خلال المرحلة المقبلة.
وينتقد المزارعون سعي كل من السلطات الكردية والحكومية السورية للتحكم بمواردهم. ويعزو عدد منهم أسباب اندلاع الحرائق إلى حالات “انتقام” عدا عن انخفاض جودة الوقود للمركبات التي تستخدم تلك الطرق فضلا عن الاهمال.
واندلعت السبت حرائق في حقول زراعية في عدد من قرى ريف حماة الشمالي في وسط البلاد، أوردت وكالة سانا أنها ناجمة عن “اعتداء ارهابي بالقذائف الصاروخية”.
وتخوض القوات الحكومية معارك عنيفة ضد فصائل اسلامية وجهادية على رأسها هيئة تحرير الشام (النصرة سابقاً) في ريف حماة الشمالي المحاذي لمحافظة إدلب في شمال غرب البلاد.
ووصل وفد حكومي سوري رفيع المستوى، في 12 حزيران إلى مدينة القامشلي للاطلاع على واقع تسويق المحاصيل الزراعية في المنطقة. وذكرت شبكة رووداو الإعلامية ان الوفد ضم وزير الزراعة السوري أحمد القادري، ووزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك، عاطف النداف، ومدير عام الشركة السورية للحبوب، ومدير عام المصرف الزراعي، وقام بجولة في مركزي الثروة الحيوانية، وجرمز، وكذلك مؤسسة الحبوب في القامشلي.
وتحاول الادارة الذاتية الكردية كما دمشق اغراء المزارعين ببيع محصول الحبوب لها، وتقوم الادارة الكردية بالضغط على المزارعين في محافظات الحسكة وديرالزور والرقة لتسليم انتاجهم من الحبوب لها.
اسعار متقاربة للشراء
وكانت الحكومة السورية قد خصصت مليار دولار لشراء محصول القمح ورفعت سعر الكيلوغرام الواحد من 175 ليرة (0,4 دولار) إلى 185 ليرة سورية.
فيما بادرت الإدارة الكردية إلى رفع سعر الشراء من 150 إلى 160 ليرة سورية، بعدما أثار قرار اتخذته بمنع المزارعين من بيع المحصول إلى دمشق نقمة شعبية، ما دفعها للتراجع مكتفية باشتراط منع “النظام من نقل المحصول الذي يشتريه من الفلاحين” إلى خارج مناطق سيطرتها، وفق مسؤول كردي.
وكان مسؤول كردي قد ابلغ وكالة رويترز في وقت سابق إن الكرد سيمنعون شحنات القمح من الدخول إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية لتعزيز الاحتياطيات.
وتوقع سلمان بارودو، رئيس هيئة الزراعة والاقتصاد الكردية ان يصل إنتاج القمح في المنطقة لعام 2019 إلى 900 ألف طن، على الرغم من الضرر الناتج عن الأمطار الغزيرة والحرائق الكبيرة التي اجتاحت حقول المحصول.
وأضاف أن محصول القمح في العام الماضي بلغ نحو 350 ألف طن، اشترت حكومة دمشق منه 100 ألف طن، أو نحو 40 بالمئة من مشترياتها من كل أرجاء سوريا.
ويسيطر الكرد وحلفاؤهم من العشائر العربية والمنظمة لقوات سوريا الديمقراطية على نحو ربع أراضي سوريا، وهو الجزء الأكبر خارج نطاق سيطرة حكومة دمشق.
وهذه المنطقة غنية بالنفط والمياه والأراضي الزراعية، وهو ما يمنح القادة الكرد نفوذا قويا، إلا أن محاولاتهم للتفاوض مع دمشق للحفاظ على الحكم الذاتي القائم حاليا في مناطقهم لم تحقق أي تقدم.
وتقع ثلاث محافظات تشكل تقريبا 70 بالمئة من إنتاج القمح في سوريا في أيدي قوات سوريا الديمقراطية.
وتشهد سوريا نزاعاً دامياً تسبب منذ اندلاعه في العام 2011 بمقتل أكثر من 370 ألف شخص وأحدث دماراً هائلاً في البنى التحتية وأدى الى نزوح وتشريد أكثر من نصف السكان داخل البلاد وخارجها.
لكن الكرد احتفظوا بشكل دائم بعلاقات مع حكومة دمشق التي تملك تمثيلا من خلال مؤسسات مدنية في مدينة القامشلي الخاضعة للسيطرة الكردية، وحاولوا دائما تجنب خوض معارك معها. وهناك تفاهمات فيما يتعلق بتسويق النفط من المنطقة الى دمشق.
السيطرة على الانتاج
وتسيطر قوات سوريا الديمقراطية على مناطق تعتبر غنيةً بالموارد الطبيعية بما فيها 95% من حقول النفط وغالبية الأراضي الزراعية.
وتسيطر الحكومة السورية حالياً على 60% من مساحة البلاد لكنها بدأت عمليات للسيطرة على مساحات اخرى في شمال حماه وجنوب إدلب وغرب حلب الخاضة لقوات المعارضة القريبة من تركيا، فيما تسيطر قوات سوريا الديمقراطية (تحالف كردي عربي) على نحو 28% من البلاد، بينما تسيطر الفصائل السورية المسلحة المختلفة على نحو 12%.
ويوضح الخبير في الشأن السوري فابريس بالانش، دوفاع الكرد لمنع خروج الانتاج المحلي من الحبوب من بين ايديهم: “الكرد لا يريدون أن يخرج محصول القمح من مناطقهم إذ بالكاد يكفي الانتاج لتأمين قوت السكان المحليين”. ويقول “من شأن نقل المحصول إلى دمشق جراء السعر المغري أكثر، أن يخلق أزمة غذائية” في مناطق سيطرة الكرد.
وبحسب برنامج الأغذية العالمي، يعاني 6,5 مليون شخص في سوريا من انعدام “الأمن الغذائي”، أو لا يعلمون من أين سيحصلون على وجبتهم المقبلة.
وتراجع إنتاج القمح والشعير الصيف الماضي بشكل كبير وبلغ 1,2 مليون طن، وهو المعدل الأدنى منذ عام 1989، فيما كان الإنتاج 4,1 مليون طن قبل اندلاع النزاع.
ومع ارتفاع معدلات سقوط الأمطار خلال الشتاء، تتوقع دمشق أن يبلغ إنتاج القمح في محافظة الحسكة وحدها 850 ألف طن.
وتوقع عامر سلو مدير مديرية الزراعة في الحسكة، وهي مؤسسة تابعة للحكومة السورية، أن “تشهد مراكز استلام القمح والشعير إقبالاً كبيراً من الفلاحين نظراً للأسعار الحكومية المشجعة”، مشيراً إلى أن الحكومة تسعى (…) للحصول على كامل إنتاج العام الحالي لسدّ الاحتياجات المتعلقة بتأمين رغيف الخبز للمواطنين”.
وتضع الإدارة الذاتية الكردية نصب عينيها الهدف ذاته، ولذلك عمدت إلى تقديم البذور للفلاحين، وافتتاح مراكز لتخزين أكثر من 800 ألف طن، كما وعدت بعدم رفع سعر الخبز، وفق ما قاله رئيس هيئة الزراعة والاقتصاد في الإدارة الذاتية الكرديّة سلمان بارودو لفرانس برس.
ويتهم بارودو النظام السوري بالسعي لـ”افتعال مشكلة وفتنة بين الناس والإدارة الذاتية”. ويقول “ما يقوم به عبارة عن ضغط سياسي ليتوهم الناس أنه يفكر بالشعب (…) لكن نحن نعلم أن الناس في الكثير من مناطقه يعانون من الجوع وارتفاع أسعار المواد” الغذائية.
السيطرة على شمال شرق البلاد
وأنهكت الحرب المستمرة منذ 2011 الاقتصاد السوري واستنزفت موارده وأدت الى تدهور الليرة السورية. ورغم أن القوات الحكومية باتت تسيطر على أكثر من 60% من مساحة البلاد، إلا أن مناطق سيطرتها تشهد أزمات معيشية جراء ارتفاع بدلات الإيجار وتفشي البطالة وقلة فرص العمل وتراجع القيمة الشرائية.
ويقول الباحث في مركز الأمن الأميركي الجديد نيكولاس هيراس لفرانس برس “يحتاج الأسد للوصول إلى شمال شرق سوريا للحؤول دون وقوع أزمة غذائية في مناطق” سيطرته.
وتريد الإدارة الذاتية الكردية تأمين الخبز للسكان في مناطقها، بينما حليفتها “الولايات المتحدة تريد استغلال الموارد في مناطق سيطرة قوات سوريا الديموقراطية وضمنها المحاصيل كورقة للضغط على حكومة دمشق في المفاوضات بين الطرفين”.
وخاض الكرد الذين عانوا من عقود من التهميش من الحكومات السورية المتعاقبة، مفاوضات مع دمشق التي تأخذ عليهم تحالفهم مع واشنطن، حول مستقبل المناطق الخاضعة لسيطرتهم من دون أن تؤدي إلى نتيجة.
ويقول هيراس “القمح هو سلاح ذو قوة عظمى في المرحلة المقبلة من الصراع السوري”.
في بلدة تل براك في ريف مدينة الحسكة، يقول المزارع بدران حاج علي أثناء تفقده محصول الشعير “النظام والإدارة الذاتية يعلمان أن محصول العام الحالي وفير، لذلك يتحكمان بنا (…) والفلاح المسكين هو المتضرر دائماً”.
ويضيف الرجل الستيني الذي ينتقد انخفاض الأسعار المقدمة للمزارعين “نمسك قلوبنا بأيدينا خشية أن تلتهم الحرائق محاصيلنا (…) لذلك نسرع في الحصاد قبل الآوان، ولا نعلم حتى الآن من سيشتري”.
س ن