2024-11-28

طبق الأصل

ماجد الحيدر

ماجد الحيدر
عن البنات الحلوات.. هاي راح تفتح لي الباب!

يحكى أن رجلا رزق بابنه الأول ففرح بقدومه وذبح كبشا كبيرا وأولم للأهل والأصدقاء والجيران كما جرت العادة. ثم رزق بولد ثان وثالث ورابع ففعل معهم مثل ذلك. وأخيرا رزق بفتاة فكاد يطير من الفرح وذبح عجلا سمينا وأقام الأفراح أسبوعا كاملا. تعجب الناس من تصرفه وقالوا له:
– أمرك غريب يا هذا. الناس تفرح بالبنين وتحزن لإنجاب البنات وأنت تفعل العكس!
– اسكتوا ! أنتم لا تعرف السبب. هذه ستفتح لي الباب!
– عن أي باب تتحدث؟
– هذه حكاية قديمة ومحرجة.
– لا بد أن تقصها علينا.
– حسنا ما دمتم مصرين. قبل سنوات طوال وفي الأيام الأولى لزواجي اتفقت مع زوجتي على أن لا نستقبل ضيفا مهما كان في أسبوعنا الأول كي يتسنى لها “أخذ راحتنا” والتمتع بخلوتنا. وحدث أن سمعنا طرقا على بابنا فنظرت من ثقب خلاله لأعرف من الطارق فإذا هما أبي وأبي جاءا الينا مهنئين محملين بالهدايا فهمست لزوجتي حتى لا تحدث صوتا كي يظنا بأننا لسنا في البيت وينصرفا كما اتفقنا، وهذا ما حدث بالفعل، فقد واصلا طرق الباب وانتظرا دقائق حسبتها دهرا ثم غادرا خائبين وعدت أنا الى أحضان زوجتي مثل من حقق نصرا مؤزرا! ولم يمض وقت طويل حتى قرع الباب مجددا فنظرت ثم همست لها بأن والديها على الباب متوقعا أن تفعل مثلي لكنها سارعت الى ارتداء ثيابها ومضت نحو الباب. قلت لها الى أين؟ فأجابت سأفتح الباب، فقلت لها: وماذا عن اتفاقنا؟ فقالت: عن أي اتفاق تتحدث؟ إنهما أبي وأمي، هل تظنني معدومة الضمير والحياء الى درجة أن أترك أبي على الباب ؟ والله سأفتح له حتى لو طلقتني الآن! عندها شعرت بالخزي والعار على ما قمت به وقارنته بتصرفها وأدركت الفرق وتمنيت من الله أن تكون ذريتي كلها من البنات!
ربما كانت القصة حقيقية وربما كانت من محض الخيال لكنها ليست بعيدة عن واقع الحال، فالأغلبية العظمى من حكايات عقوق الوالدين “أبطالها” من الأبناء ولا نكاد نسمع إلا القليل القليل من حالات عقوق البنات أو ظلمهن لآبائهن وأمهاتهن، رغم أن المرحوم شكسبير عرض علينا حالتين نادرتين لبنتي الملك لير الكبرى والوسطى ثم “جبر الكسر” عندما قدم واحدة من أنبل صور بر الوالدين والوفاء لهما متمثلة بالابنة الصغرى (كوريدليا) التي وقفت معه وضحت بحياتها من أجله.
نعم فالبنات، وهذا معروف، لا “ينطين” بأخوتهن وآبائهن حتى لو عاملهم الأخيرون بقسوة وظلم، وإن لم تصدق فجرّب أن تتحدث بسوء على والد زوجتك أو أخيها أمامها (حتى لو كانت على خصام معه) كي ترى كيف تفهمك معنى “الخطوط الحمراء” ثم تذكّر كيف تقف أمامها فاغر الفم مثل التلميذ المطيع وهي “تتناول بالنقد البنّاء” سيرة أهل الذين خلفوك مؤكدا “الحقيقة التاريخية” التي مفادها أن الرجّال أخو مريته!
ورغم أن التقاليد والأعراف والشرائع والقوانين تحيزت في غالبتها ضد البنات وارتضت بأكل حقوقهن حيات وميتات فإن بعضا من المرويات والمأثورات التاريخية والشعبية “أخذت حقهن” وأنصفتهن وفي ذلك بعض من شفاء الغليل؛ فالبنت “أم أبيها” وهي “ايد أمها وضلع أبوها” كما في المثل البغدادي و “ما من رجل يبدل ابنته بولد” كما يقول المثل الكردي، و”ابنك ابنك حتى يتزوج وبنتك بنتك طول العمر” و ” يلي مالو بنات ما حدا بيعرف امتى مات” كما يقول المثل السوري، أو ما تردده الأم العراقية المقهورة المغضوب عليها لإنجابها البنات وهي ترقّص طفلتها وتغني متحدية وجهة النظر السائدة قائلة ” يُمَّه البنات، سبعة واﮔول ﮔَيلات”. وعلى ذكر أغنيات تدليل الصغار أو ترقيصهم (وأنا أحفظ العديد منها وكنت وما زلت أرددها لأطفالي ثم لأحفادي) فمنها من خص البنات بأحلى العبارات:
يا بنيتي يا هوى الهاب
زغيرونه وتﮔعد عالباب
تنطر امها لو جَتّي
وبسرعه تفك الها الباب
و
يا بنيتي وشحلاها
ﮔصايبها وراها
اجه الخطّاب يخطبها
وابوها ما نطاها

حتى أقسى الشعراء يسيل رقّة وعذوبة حين يتحدث عن بناته، فها هو الحطيئة ذو اللسان البذيء لم يجد ما يستعطف به الخليفة عمر بن الخطاب (بل ويُبكيه) وقد ألقاه في السجن عقابا له على الإساءة للناس غير قوله:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخِ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيتَ كاسبهم في قعر مظلمةٍ فارحم عليك سلام الله يا عمر

ومن منا لم يسمع هذه الأبيات التي أنشدها (حطّان بن المعلّى) قبل ما يناهز الأربعة عشر قرنا لكنها تبدو كأنها قيلت بالأمس القريب:
لولا بُنيّـاتٌ كزُغْـــبِ القَطــا*** رُدِدْنَ مـن بعـضٍ إلـى بـعــضِ

لكان لـي مُضْطَـرَبٌ واسعٌ** في الأرض ذاتِ الطول والعَرْضِ

وإنّـمـــا أولادُنـــا بيننـــا*** أكـــبادُنـا تمشـــي علـــى الأرضِ
لو هَبّتِ الريحُ على بعضهـم ***لامتنعتْ عيـني عن الغَمْضِ

وها هو مالك بن الريب الشاعر الفاتك الغازي من العصر نفسه يتذكر (وهو يرثي نفسه ويجود بآخر أنفاسه) أمه وابنتيه وخالته اللاتي تركهن هناك في الصحراء البعيدة ويتحسر لأنه لم يستمع لنصيحة ابنته المحِبّة التي ترجوه البقاء الى جانبها:
تقول ابنتيْ لمّا رأت طولَ رحلتي سِفارُكَ هذا تاركي لا أبا ليا
نعم، فالبنات شموع بيوتنا وسلوتنا في شبابنا وسندنا في شيخوختنا ومرضنا و حين نموت هن الاكثر بكاء وحنينا وزيارة لقبورنا!
كل هذا لا يعني أن الأولاد لا يحملون مثل هذه المشاعر والأحاسيس أو أنهم ليسوا مظلومين ولم يكتب عليهم التعب والعذاب والحروب والسجون وكل ما يخطر على بال من صنوف العذاب في هذه البلاد لكن أظن (وكثير من الظن ليس بالإثم) أن البنات أكثر قدرة على التعبير “العملي” عن محبتهن لذويهن والوفاء لهم ولا “يتعاجزن” عن ذلك ولا يشغلهن عن ذلك شيء من أمور الحياة وظروفها. وبناتنا، فوق هذا وذاك، لسن حلوات لذيذات حنونات كالعسل فقط بل “عمّاريات” ذكيات مجتهدات كادحات شجاعات لا يهبن من “بكالوريا” أو رصاص أو غازات مسيلة للدموع أو داعشي أو معمم يأمرهن بالجلوس في سراديب البيوت ولف أجسادهن ورؤوسهن بأكياس النايلون السوداء! وعليه فإنني أعبر عن “شجبي واستغرابي” لعدم تخصيص السيد الأمين العام للأمم المتحدة ساعة لا يكون فيها مشغولا بـ”التعبير عن قلقه” كي يدعو الى إعلان يوم عالمي للبنات، وللبنات فقط، عناداً في “جهاتٍ بعينها” ؟!