2024-11-28

ضحايا ثورة السودان وجروح الأمهات التي لن تندمل

3

فرانس24
بعيدا عن وسط الخرطوم وفي “حارة” متواضعة لا تغيب عنها الشمس المحرقة، تحاول آمال مصطفى علي تجفيف دموعها والتأقلم مع الحياة الجديدة بعدما فقدت ابنها الوحيد علي التاج حسن (27 سنة) الذي قتل يوم الجمعة 10 مايو/أيار في احتجاجات شعبية أمام مقر القيادة العسكرية قرب ساحة الاعتصام.

وحسب التصريح الذي أدلت به لفرانس24 في عين المكان، فلقد تم استهداف علي التاج “في الرأس وبشكل متعمد لأنه كان يدافع عن الثورة والحرية والدولة المدنية”.

وروت هذه الأم قصة مقتل ابنها والدموع تتدفق من عينيها، وجسدها يرتجف من شدة الحزن. “علي حسن فطر معي في المنزل ثم قرر الذهاب إلى مركز القيادة من أجل الاعتصام. قلت له، لا تذهب إلى القيادة هذا المساء. الجماعة هناك (يعني العسكر) يضربون بالسلاح. لكنه رفض مجيبا، لا يا أمي هذه الليلة قررت الذهاب إلى أمام مركز القيادة. وبعد وقت قصير، اتصلت به عبر الهاتف فلم يرد. ثم اتصلت بصديق كان معه، فأجابني إن علي ’استشهد‘ ونقل إلى المستشفى ’المعلم‘ بالخرطوم”.
وفور سماع ما حدث، شعرت آمال مصطفى كأن السماء كلها انهارت على رأسها في لحظة واحدة. فيما انتشر الخبر في الحي الذي تسكن فيه وبدأ الجيران والأصدقاء يتوافدون إلى منزل “الشهيد” الشاب لتقديم العزاء رافعين شعار “كلنا علي يا أم علي”.

ولا شيء يمكن أن يشفي غليل آمال مصطفى سوى محاكمة قاتلي ابنها، كما قالت، ومحاسبة كل رموز النظام السابق الذي وصفته بـ”الجائر” وفي مقدمتهم عمر البشير.

“الدم بالدم يا كلاب الأمن”

وأضافت في حوار مع فرانس24: “أقول لشباب السودان، يجب أن تتحدوا وتعتصموا لكي تحرروا البلد. التغيير مفروض. الشعب لازم يرتاح ودماء ابني علي وشهداء الثورة جميعا لا يجب أن تذهب هدرا”.

وواصلت: “شبابنا لا يخاف. بناتنا لا تخاف. سينتصرون مهما امتد الزمن. العالم يجب أن يسمع قصة السودان المنهوب. السودان نهب من أهله وناسه وليس من الغريب. لو حكمنا أجنبي، ما عمل فينا ما عمله نظام البشير. دمر الشباب ودمر البلد. المدارس تعبانة والصحة تعبانة. أبسط الأشياء مثل الأكل والشراب غير متوفرة. لكن السودان يجب أن يتغير. شبابنا غير خائف وسيبني سودان جديد ودولة مدنية…”.

وشاركت آمال مصطفى الجمعة الماضي في مهرجان ثوري شعبي برفقة موكب مكون من آلاف الشبان والشابات انطلق من منزلها بضواحي الخرطوم لغاية ساحة الاعتصام أمام مقر القيادة العسكرية حيث كان ينتظرها آلاف الثوار السودانيين. الهدف كان تكريم ابنها خصوصا، وجميع “شهداء” الثورة السودانية بعامة، حسب أحد أفراد العائلة.

وفور وصولها إلى المكان، قوبلت من قبل المعتصمين بالزغاريد والهتافات والتصفيقات، لعلها تقلل من حزنها وتشفي غليلها. فيما ردد الحاضرون شعارات مناهضة للنظام من بينها “أم الشهيد أمي ودم الشهيد دمي” أو “أمي ما تبكي، خلي الوطن يبكي”، متوعدين بالثأر من الذين قتلوا علي التاج حسن.
وفي جو ساده الخشوع والتأهب، صعدت أمل مصطفى إلى المنصبة الشرفية وخاطبت الحاضرين قائلة: “إن شاء الله ستحررون السودان. أنا كان عندي ولد واحد فقط. أنتم الآن أولادي. لازم تواصلوا المسيرة. الشعب يريد أن يعيش. المجرمون جوعوا شعبهم. هم ليسوا سودانيين، لأنهم لو كانوا كذلك، ما عملوا مثل هذا العمل. دمروكم بالمخدرات. لكنكم استيقظتم. لا نريد أجنبيا يحرر البلاد. أنتم من ستحررونها. فلا تيأسوا”.

وبصوت واحد ومرتفع، أجاب الجمهور:” الدم بالدم يا كلاب الأمن. يا أم علي كلنا علي. سنواصل المسيرة حتى الانتصار…”.

“فخر لنا وللثورة السودانية”

ولم تتمكن ماريا الطيب محمد بشير أن تحضر التكريم الذي أقيم لشهداء الثورة السودانية في ساحة الاعتصام على الرغم من أنها فقدت هي الأخرى ابنها فاتح عميد النمير الذي أصيب بالرصاص خلال مظاهرة في 17 يناير/كانون الثاني 2019.

هو أيضا خرج ليدافع عن دولة مدنية ولمؤازرة رفقاءه الثوار. لكن رصاصة من قوات التدخل السريع أصابته في عينه. تم نقله إلى المستشفى للعلاج، لكنه فارق الحياة بعد أربعة أيام من العلاج، أي في 21 من نفس الشهر.

ولاتزال خزانة فاتح عميد النمير والتي كدس فيها أغراضه وكتبه مغلقة بقفلين منذ وفاته ولا أحد يتجرأ على فتحها. لا أمه التي لا تحتمل مشاهدة ملابسه الشخصية من شدة الحزن، ولا أخوه الذي يشاركه غرفة النوم التي تقع بعد مدخل المنزل الواقع في حي شعبي بأم درمان، وهي مدينة تبعد عن الخرطوم بحوالي 20 كيلومترا. “كنت أعيش معه في نفس الغرفة كأخ وصديق. حياتنا كانت جميلة. لم أتخيل أن يفارقني في يوم من الأيام وأعيش دونه. لكن هو فخر لنا وشهيد لنا وللثورة السودانية”.

واتهمت والدته “النظام المخلوع واتحاد الطلاب السودانيين الموالي للبشير بالوقوف وراء مقتله”. وقالت لفرانس24: “عندما دخل جامعة الخرطوم في السنة الأولى طلب منه اتحاد الطلاب الانضمام إلى صفوفه. لكنه رفض متحججا بأنه جاء للجامعة ليدرس، وأنه أصلا يكره الأحزاب السياسية في السودان لأنها لا تنفع. وعلى الرغم من ذلك، قام بعض طلاب الاتحاد بتوريطه، وذلك بإدخاله إلى مبنى كبير داخل الجامعة يحتوي على كميات هائلة من الأسلحة البيضاء، ونصحوه باستخدامها في حال وقعت مظاهرات. لكن لحسن الحظ، لم يحدث أي شيء طيلة سنوات دراسته”.

“نتمنى أن نعلق كل صور جميع الشهداء في الشارع”

منذ بداية الثورة السودانية في ديسمبر/كانون الأول 2018، قتل ما يقارب 50 شخصا وفق إحصاءات غير رسمية، فيما تمت إصابة المئات بجروح.

ومنذ أيام، ازداد الغضب الشعبي إزاء الجيش الذي لم يتمكن حسب غادة ( اسم مستعار) وهي ناشطة سودانية من كشف الجهات التي تطلق الرصاص من حين إلى أخر على المتظاهرين قرب المواقع التي تتواجد فيها المتاريس، متهمة بقايا النظام السابق و”جماعة الظل” بمحاولة نشر الرعب في صفوف المواطنين.

” لم نفهم أي شيء. فتحوا شركات (أصحاب النظام السابق) لأنفسهم ومسكوا البلاد لخدمة أنفسهم أيضا. وعندما نظمنا مظاهرات للمطالبة بحقوقنا، أبسط شيء قاموا به، هو اصطيادنا كالطيور”. وواصلت بغضب: “لو جاؤوا دون أسلحة، لانتصرنا عليهم كلهم. هذا البلد بلدنا ولدينا حقنا فيه. نحن سننهض بالسودان ونحمي وطننا وأرضنا وسنبقى شبابا”.

وأضافت مواطنة أخرى: “نحن نتمنى أن نعلق صور كل الشهداء في الشارع. سننظم السودان كي يكون بلدا آمنا. سودان خال من الأطفال المشردين. سودان تكون فيه البيوت مفتوحة. سنتصالح مع الجنوب وسيصبح السودان بلدا واحدا. لكن قبل هذا، يجب أن نسترجع كرامة الشهداء وحقهم”.

وفي انتظار ولادة هذا الحلم، كل الأنظار متجهة نحو الجولة الثانية من المفاوضات التي استؤنفت الأحد بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير.