بناء المجمعات السكنية يهيمن على الإستثمار في كردستان بأكثر من 20 مليار دولار
الأهالي ريبورت/ صلاح بابان
شهد اقليم كردستان بعد عام 2005 انتعاشا اقتصاديا كبيرا مع انطلاق الإستثمار في مختلف المجالات وبشكل خاص المجمعات السكنية، مدفوعا بالاستقرار الأمني الكبير في محافظات الاقليم في ظل تدهور الأمن في باقي مناطق البلاد، ومع تصاعد اسعار النفط من جهة واتساع عمليات انتاجه من جهة ثانية.
وباقرار قانون جديد للاستثمار ووجود مساحة واسعة للإستثمار في عدة قطاعات وخصوصاً في النفط والاسكان والصحة والتعليم والسياحة، اضافةً الى التسهيلات الكبيرة التي قدمتها حكومة الإقليم للشركات الإستثمارية الأجنبية خلال السنوات الماضية، حقق الاقليم نهضة اقتصادية لافتة قادها الاستثمار في قطاع العقارات حيث اقيمت عشرات المجمعات السكنية الكبيرة والحديثة في اربيل والسليمانية ودهوك غيرت وجه تلك المدن.
وخلال سنوات قليلة دخلت آلاف الشركات التجارية والاستثمارية الأجنبية وبشكل خاص الشركات التركية والايرانية والكورية المتخصصة في مجال البناء والاعمار والاسكان وتجارة النفط الاقليم، وقامت باستثمارات بمليارات الدولارات وجنت خلال سنوات خليلة ارباحا كبيرة.
واستقطب الاقليم في ذات الفترة عشرات آلاف من العمال المهرة من تركيا وايران خاصة في قطاع البناء، للمساهمة في تنفيذ البرامج الواسعة للشركات خاصة في مجال الاستثمار في القطاع العقاري لسد الحاجة الى مئات الآلاف من الشقق والحدات السكنية التي فرضها واقع توقف البناء في الاقليم لنحو 15 عاما ونزوح مئات آلاف العراقيين من باقي المحافظات التي شهدت تصاعد الارهاب واعمال عنف وكان بينهم عشرات آلاف المتمكنين ماديا والذين قرروا الاقامة الدائمة في الاقليم وشراء شقق ووحدات سكنية في المجموعات التي كانت قيد البناء.
الأسعار الكبيرة
وبحسب الأرقام الرسمية للجهات ذات العلاقة والتي اكدتها احصائية صادرة مؤخرا عن احدى المنظمات المدنية في كردستان، فان قطاع بناء الدور والمجمعات السكنية استحوذ على نسبة عالية من عموم الإستثمار في كردستان على مدار الأعوام التسعة التي شهد الاقليم فيها انتعاشا استثماريا (2006-2015).
ويعود السبب في استقطاب الاسثمارات في هذا القطاع من جهة الى حاجة السوق الكبيرة، ومن جهة ثانية الى سرعة تحقيق الارباح بمجرد انهاء انجاز المشروع او حتى بمجرد الانطلاق بالعمل فيه، في حين ان باقي القطاعات الاستمارية تحتاج الى سنوات لتحقيق الأرباح.
وحولت تلك المشاريع العقارية اربيل والسليمانية الى ورش كبيرة للعمل في انجاز المجمعات السكنية سواء في وسط المدينتين التي استقطبت المشاريع ذات التكلفة العالية والمواصفات الراقية، او في اطراف المدينتين والتي شهدت انجاز مجمعات باسعار مختلفة تترواح بين 60 الى 120 الف دولار.
لكن مواطنين واقتصاديين يرون ان انتعاش الاستثمار في مجال بناء الدور والشقق السكنية لم ينعكس ايجابا او لم يكن بالمستوى الذي يخدم أبناء الطبقة المتوسطة والفقيرة بسبب أسعارها المكلفة التي تتجاوز الـ50 ألف دولار أمريكي وتصل احيانا الى مليون دولار.
فحتى مع شيوع نظام التقسيط لعدة سنوات لا يستطيع الموظف متوسط الدخل الحصول على شقة سكنية اعتمادا على راتبه في اقل من عشر سنوات.
184 اجازة بناء لمجمعات سكنية
ويأتي الإستثمار في قطاع بناء الدور والمجمعات السكنية بالمرتبة الاولى من عموم العملية الإستثمارية في الإقليم، وما بين عامي 2006 – 2015 منحت 184 اجازة لبناء المجمعات السكنية التي ضمت (151) ألف وحدة سكنية برأس مال وصل الى أكثر من 20 مليار و500 مليون دولار.
ويؤكد رئيس منظمة “ستوب” لمكافحة الفساد في اقليم كردستان فرمان رشاد ان ما نسبته (75%) من هذه المشاريع جاءت لخدمة من هم فوق مستوى خط الفقر والميسورين وبأسعار وصلت من (50 ألف دولار) الى (مليون دولار أمريكي) وهذا ما جعل هذه المشاريع لا تحل مشكلة السكن في الإقليم بنسبة كبيرة.
ويتفق نزاد احمد، وهو مهندس مدني عمل في العديد من المشاريع العقارية في الاقليم، مع الرأي السابق لكنه يؤكد في عين الوقت ان تلك المشاريع المنجزة وتزايد المعروض من الشقق والدور السكنية في ظل المنافسة بين الشركات ساهم جزئيا في خفض الاسعار وبالتالي تمكين بعض الموظفين من الحصول على شقق بقروض تمتد على عدة سنوات.
هروب مستثمرين ومشاريع وهمية
ويشير رشاد في حديثٍ خاص مع “الأهالي ريبورت” الى ان نسبة عالية من المواطنين تعرضوا لخسائر مادية فادحة بسبب عدم اكتمال البعض من هذه المشاريع لتعرضهم لعمليات نصب واحتيال من أصحاب الشركات الذين هربوا الى خارج الإقليم قبل انجاز مشاريعهم رغم أخذهم لأموال كبيرة، أو بسبب اكتمال تلك المجمعات دون ايصال الخدمات اليها بالشكل المطلوب، مؤكداً ان “جزءا كبير من الأراضي تم تغييرها من المساطحة الى الإستثمار حتى يتم تسجيلها بأسماء بعض الأشخاص المستفيدين منها”.
ويضيف ان “الإستثمار الأكبر في هذا القطاع كان من حصة المسؤولين الكبار في حكومة الإقليم مع غياب العدالة والشفافية في منح العقود الاستثمارية المغرية”، مبيناً انه تم اقامة “24 مشروعاً خاصاً بالبناء تضم 35 ألف وحدة سكنية بدون تراخيص أو اجازات بناء في الإقليم منها سبعة مشاريع في أربيل، وجزء من المشاريع أخذت الأموال من المواطنين إلا انه لم يتم بناؤها أساساً فيما تم بناء ما نسبته 40%-50% من مشاريع أخرى دون اكمالها لحد الآن رغم استحصال الأموال من المواطنين المسجلين عليها”.
ويكشف رئيس منظمة “ستوب” عن “تخصيص (6013) دونماً من الأراضي في المناطق الراقية والجيدة لمشاريع استثمارية في قطاع السكن، وأغلبها كانت أراض زراعية”.
تشغيل 80 ألف عامل
ورغم كل شبهات الفساد والنقاط السلبية التي سجلت على قطاع الإستثمار في اقليم كردستان بمجال بناء الدور والمجمعات السكنية، ودعوات اعادة النظر في قانون الاستثمار لمعالجة سلبياته ونقاط الخلل فيه، إلا أنه استطاع تشغيل أكثر من (80 ألف) من الأيدي العاملة حتى عام 2014. كما ان الاستثمار استقطب رأس مال يقدر بـ(37 مليار و500 مليون دولار) لغاية العام نفسه، وهذه الأموال ساهمت في تطوير بنية الاقليم العمرانية والخدمية وتنشيط الحركة الاقتصادية وتحسين معيشة الأهالي.
وشدد رئيس منظمة (ستوب) على ضرورة اجراء تعديل شامل لقانون الإستثمار في اقليم كردستان، مشيرا الى تقديم مشروع قانون تعديل الإستثمار في الإقليم من قبل لجنة البلديات والإستثمار في برلمان الاقليم الى اللجنة القانونية في البرلمان ومن الضروري ان يتم اجراء التعديل الشامل على القانون بأقصى سرعة.
ودعا فرمان الى ان يتضمن التعديل الجديد لقانون الإستثمار اجراء التسهيلات للإستثمار في قطاعات الصناعة والتجارة والزراعة والسياحة والقطاعات الأخرى وليس في قطاع البناء فقط، حتى يشهد الاستثمار انتعاشاً أكثر في مختلف المجالات ولا يظل محصورا في مجال البناء.
كما طالب بانهاء ظاهرة منح الأراضي بأسعار رمزية جداً لبعض المستثمرين للحفاظ على الأراضي الجيدة والمميزة مع تشديد الرقابة على مشاريع الإسكان لمنع وقوع المواطنين في عمليات نصب واحتيال من قبل المستثمرين وكذلك متابعة مواصفات المجمعات السكنية التي يتم بناؤها في كردستان خلال الأعوام المقبلة.
وطالب رئيس المنظمة باخضاع الإستثمار في قطاعي النفط والغاز الى قانون الإستثمار، وان لايكون الإستثمار في هذين المجالين بعيداً عن هذا القانون كون ذلك له سلبيات كثيرة ويسبب بفساد كبير في الإقليم.
ويشير خبراء اقتصاديون الى اهمية ان تعالج اي تعديلات في قانون الاستثمار، مواضع الخلل التي لم تمكن متوسطي الدخل من الاستفادة من المجمعات السكنية المشيدة بسبب ارتفاع اسعارها رغم التسهيلات التي قدمتها حكومة الاقليم خاصة المتعلقة بتوفير اراضي بأسعار رمزية، الى جانب اجراء تعديلات تنعش الاستثمار في القطاعين الزراعي والصناعي لأهميتها في تطوير اي بلد، وحتى يساهما في تقليل البطالة من خلال تشغيل الايدي العاملة.
فشل في القضاء على مشكلة السكن
من جانبه اعترف رئيس لجنة التجارة والطاقة والثروات الطبيعية والصناعة في برلمان اقليم كردستان بلين اسماعيل بأن سياسة حكومة اقليم كردستان “لم تكن صائبة عندما تبّنت فكرة بناء المجمعات السكنية للقضاء على ظاهرة الإيجار أو مشكلة السكن في الإقليم بسبب الفساد المستشري في قطاع الإستثمار”.
وقال اسماعيل في حديث لـ”الأهالي ريبورت” ان برلمان الاقليم مطالب في الوقت الحالي باجراء تعديل شامل على قانون الإستثمار في كردستان بآلية تصب في مصلحة المواطنين وليس التجار والمستثمرين كما حصل في السابق”.
وبحسب رئيس لجنة التجارة فان المستثمرين ومن خلال التسهيلات المقدمة لهم من حكومة الإقليم حصلوا على مساحات كبيرة من الأراضي الجيدة وبأقساط مريحة تصل الى سنوات طويلة وبأسعار رخيصة جداً واستطاعوا من خلالها تكونين رؤوس أموال ضخمة لأنفسهم دون ان يعملوا على حل مشكلة السكن في الإقليم”.
الإستفادة من تجارب الدول
يؤيد ذلك الكلام الخبير الاقتصادي د. محمد علي، الذي يؤكد ان المواطن الكردي عموما لم ينتفع من بناء المجمعات السكنية الضخمة باستثناء الطبقة الغنية بسبب الكلفة العالية لهذه المجمعات، مبيناً ان “معظم البناء جاء في المناطق الراقية وهذا ما جعل الإستفادة منها بالنسبة للطبقة المتوسطة والفقيرة بعيد المنال”.
ومن أجل ان يصب بناء هذه المجمعات في خدمة المواطن من الطبقتين المتوسطة والفقيرة، دعا علي في حديثه لـ”الأهالي ريبورت” الى الإستفادة من تجارب وخبرات دول الجوار أو الدول المتقدمة مثل كوريا التي قدمت العديد من النماذج الجيدة للبناء منخفض التكلفة في أربيل لكنها توقفت.
كما اقترح علي، على حكومة الإقليم منح قطع اراضي بمساحة (125م أو 150م) للمواطنين ليقوموا هم بالبناء مع توفير كامل الخدمات لهم وتسهيل منح القروض العقارية، مؤكداً عدم “استفادة محدودي الدخل من المشاريع الإستثمارية لكلفتها العالية”.
ويرى مقاولون واصحاب مكاتب عقارية الى ان على الحكومة دعم انجاز مجمعات منخفضة التكلفة على ان تكون ذات بناء جيد وبمواصفات مقبولة حتى لو كانت بعيدة بعض الشيء عن مراكز المدن بشرط توفير الخدمات فيها ومد شبكة الطرق اليها.
ويقول احسان احمد، وهو مقاول، ان مساحات البيوت في اربيل التي كانت تمتد بين 200 و250 مترا قبل عقدين، اصبحت الآن تترواح بين 150 و100 متر، وان عشرات آلاف العوائل متوسطة الدخل تضطر الى البناء على تلك المساحات الصغيرة والمبنية بمواصفات محددة وتعاني من مشاكل في الخدمات والانارة والتهوية لأنها غير قادرة على شراء دور مبنية على مساحة اكبر او شراء شقق بمساحات مماثلة لكن بمواصفات جيدة.
الإقليم يفتقر للمواد الإنشائية
وساهم الإستثمار في قطاع البناء في تكوين رؤوس أموال كبيرة وزيادة أرصدة العديد من الشخصيات في الإقليم والتجار والمستثمرين المدعومين من الاحزاب، كون الأزمة في كردستان تتركز على كونها أزمة أراض وليس أزمة سكن. وجاء قرار حكومة الإقليم بعدم توزيع قطع الأراضي على الموظفين منذ العام 2003 الا بشكل محدود، بفتح الأبواب أمام الشركات الإستثمارية لتقوم بتنفيذ هذه المشاريع كون أرباحها مضمونة وعالية جداً وبوقت قصير.
وعلق الخبير الاقتصادي د. محمد علي، على حجم الأموال التي تم تحويلها الى خارج الإقليم بالاستفادة من العمل في ذلك القطاع، قائلاً: “مليارات الدولارات تم تحويلها الى خارج الإقليم بسبب عمليات الفساد في قطاعات الإستثمار”، لافتاً إلى أن “الإقليم يفتقر الى معظم المواد الانشائية المحلية وكل ما يدخل في عملية البناء مستورد من الخارج حتى الأيدي العاملة والمهندسين والعمال كانوا من الأجانب”.
وينبه علي الى ان أكثر من 30 مليار دولار تم تحويلها الى خارج الإقليم والعراق، وليس العكس كما يقول البعض بسبب الإستثمار في هذه القطاعات مما زاد من الفساد، وهو ما يتطلب مراجعة قانون الاستثمار ومعالجة نقاط الخلل فيه، والعمل بجدية لمعالجة ازمة السكن المتعلقة بمحدودي الدخل في الاقليم.
“ص ب” و “س ن”