المدينة تحت-الأرضية قصة: اسماعيل هاجاني ترجمة: ماجد الحيدر
لستَ تعرفُ ماذا تفعل في انتصاف الليل هذا. من أين تأتي؟ الى أين تذهب؟ منذ شهر والمطر يجثم على أنفاس الناس. لكنك تعشق المطر، الناس تثمل بنجيع الكؤوس وأنت بقطرتين من المطر. بيد أنك تخاف من البرق والرعد وتكرههما لأنهما يجفلان البشر ويبعدانهم عن أطياف الثمالة.
المدينة تحت الأرضية لا تبعد سوى مئتي خطوة وراء بيتك. ها أنت ترى خطواتك تسرقك الى باطنها. ألقيتَ عليهم تحية الاسلام فرد عليك الجميع بأحسن منها والحق يقال، صغيرهم وكبيرهم، نساؤهم والرجال.
جلستم وشرعتم بتبادل الأحاديث. ثمة بينهم واحد من محبي المزاح واللعب. كان يعبث بشاهدة قبر صديق له ويقول:
مكتوب هنا أنك شهيد الوطن، الخلق كلهم يعلمون بأنك كنت يا عمّ تعمل في التهريب، فمن أين أتتك الشهادة؟
ثم يلتفت الى أحد الشباب ويقول:
شجرة الزيتون فوق شاهدتك ارتوت من الماء بفضل المطر. أمك منشغلة طوال الصيف بالنزهات ولا وقت لها لتسقي زيتونتك بقطرة ماء!
وهنا انبرى له أحد الرجال لينهره قائلا:
كفّ عن لجاجك هذا ودع هذا الرجل القادم للتحدث معنا كي نشبع من كلامه عن أحوال الدنيا.
ودنا طفل كثير الحراك وقال:
هل معك بعض الشكولاتة يا عم؟
تفقدت جيوبك فلم تعثر فيها على أية قطعة من الحلوى فتمتمتَ:
ليت رقبتي اندقّت! لماذا لم أملأ جيوبي بالحلوى لأجل هؤلاء الصغار؟
ثم لم تملك غير أن تعده بأنك ستجلب له الكثير من الأشياء إن أتيت مرة أخرى.
لا أطيل عليكم، لقد ارتموا عليك وبدأوا بالسؤال والشكوى. أحدهم قال:
أهلنا قد نسونا. اذهب وانظر في أرجاء الدنيا. أماكن الكلاب والعجول والحمير عند غيرنا أفضل وأنظف، أين تحضرّنا الذي يدّعون؟
وردد العشرات معا:
لا زيارات، لا خيرات ولا صدقات. كانوا يأتون كل يومين أو ثلاثة وهاهم يزوروننا بالكاد بين عيد وآخر.
ثمة طفل لا يكف عن البكاء. سألتهم عما به فأجابوك:
لقد جاء الى هنا لكن أمه لم تزره، ولا نعرف ماذا نفعل به. لقد فشلت كل محاولاتنا لتهدئته. لا حول ولا قوة إلا بالله. أ فهل من فرق بين الأطفال والكبار؟ ألم يكن الكبار أطفالا ذات يوم؟
وتساءلت صبية خفيفة ظل ممشوقة قوام:
عمّاه. قل لي بربّك: أما زلتم تستخدمون الفيسبوك الذي خرّب بيتي. ذلك الذي كان سبب انتحاري؟
فتهز رأسك مؤكِّدا وعلى وجهك ضحكة مُطَمئِنة:
ليت الأمر اقتصر يا ابنتي على الفيسبوك. لقد ظهرت أشياء أخرى عديدة، الفايبر، الواتس-أب، السناب الى آخره مما لا أعرف اسمه وعمله. صدقوني إن قلت لكم إن تناول وجبة ساخنة صارت إحدى أمنياتنا؛ إذ حالما يضعون السفرة حتى يقال لنا توقفوا، لا تقتربوا من الطعام حتى نلتقط له صورة لأجل السناب!
ثم سأل رجل حسن الهيأة:
أنتم يا أهل الدنيا، أما زلتم تقفون دقيقة حداد علينا نحن الشهداء؟
بلى والله. لو جمعت الدقائق التي وقفت فيها أنا وحدي لناهزَت سنة كاملة من عمري. ثمة أيام يعقدون لنا فيها سبعة اجتماعات ويجعلوننا نقف على أقدامنا في كل مرة.
لسنا في حاجة الى هذا النوع من التكريم (علق الرجل في استياء) لو أردتم حقا أن تكرموننا فعليكم أن تحترموا المبادئ والقيم التي استشهدنا من أجلها.
وتقدم واحد منهم وأخرج ورقة من جيبه وقال:
أنصتوا اليّ. لقد كتبتُ قصيدة جديدة.
فصاح به الجميع:
أقعد يا هذا! قصائد، قصائد.. أهذا وقتك ووقت اشعارك؟!
فأقعى المسكين وقد غمره الخجل وتمتم بصوت مخنوق:
عندما كنت في الدنيا لم تكن من قيمة للشعر. لم تكن الحكومة تولي للشعر اهتماما بقدر اهتمامها بلالش* والأوقاف. إن أردتم الحقيقة فأنا الآخر لم يعد لي من مزاج للشعر. لقد تحول سائقو الأجرة والحلاقون وأصحاب الدكاكين وكل من هب ودب الى شعراء!
ثم سالت إحدى العجائز:
لا أعلم إن كان اسمي قد ظهر في قوائم الحجيج أم لا. كانت المرة الثالثة التي أسجل فيها، ولقد أملتُ أن يظهر اسمي قبل أن أجيء الى هنا.
فضحكتَ وترددت قهقهاتك في أرجاء المدينة فسألتك:
علام تضحك يا بنيّ؟ ما الذي قلتُه؟
فتجيبها من خلل ضحكاتك:
أمّاه، لو كانت لديك واسطة لظهر اسمك. أما بخلافه فلا تأملي ذلك. وما أنتِ والحج؟ كل امرئ حجّهُ أمام بابه. أرجاء مدينتنا تطفح بالصخور السود والحمر والبيض وكلها من صنع الله لا من صنع أبي! لا تحملي همّا. المهم أن نيتك كانت سليمة وقد علم بها ربك الكريم. لقد ظهر هذه الأيام موديل أكثر سهولة إذ يمكن لأقرباء المتوفي أن يؤدوا الحج نيابة عنه. إنها نهاية الدنيا وسيأتي يوم يبيعون فيه الصوم والصلاة!
وسأل أحد المعلمين عن رواتبه المستقطعة فطيّبت خاطره وأنت تقول في نفسك:
لو استمر الأمر على هذا المنوال فإنني أقسم لك بأن أبناء أبنائك لن يحصلوا عليها!
وفجأة قدم مجنون المدينة المولع بالشتائم وبدأ بالسباب وإطلاق الكلمات الفاحشة فقلتَ له:
ألا تكفّ هنا أيضا عن عادتك في إطلاق الشتائم؟
فأجابك بفمه الذي يتدلى منه اللعاب:
أولئك الذين كنت أشتمهم في الدنيا هم أنفسهم الذين يحيطونني هنا، فلماذا لا أشتمهم؟
وهب هواء بارد، وتسللت الى أوصالك قشعريرة لم ينفع معها ضم أطرافك الى جسدك. وازداد احساسك بالبرد، وقبل أن تنهض على قدميك رن جرس هاتفك فهزّت تلك الفتاة الصغيرة اللعوب ذؤابتيها وقالت:
هلّا أعرتني هاتفك لألتقط به صورة “سيلفي”.
وعندما ودعتهم بكت الطفلة خلفك ورجتك ألا تذهب. واغرورقت عيناك بالدموع وتعهدت لها بصوت حزين أن تعود قريبا وتجلب لها الكثير من الهدايا، وحين ابتعدت عن المدينة تحت-الأرضية فتحت هاتفك لتتفرج على الصور و”السلفيات” التي التقطَتها لكم فلم ترَ غير سواد فاحم سواد فاحمٌ لا غير!
عن مجموعة: أنين الكمان-2019
*لالش: المزار الايزيدي المعروف.